ربما وبعد كل تلك التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة وبعد حالات الانكشاف الكبرى في كثير من الملفات وبعد انهيار مشروع الإسلام السياسي في المنطقة وتراجعه في العالم، ليس أنسب من أبوظبي لتكون مقرا ومنطلقا للحدث العالمي الضخم الذي شهدته الأسبوع الماضي: المؤتمر العالمي للمجتمعات المسلمة.. الفرص والتحديات.
هذا أحد الملفات التي شهدت صمتا طويلا جعله رهينة طيلة العقود الماضية لدى المؤسسات والتنظيمات الحزبية والحركية إلى الدرجة التي تأزمت فيها علاقات المسلمين في البلدان غير المسلمة بأوطانهم وأصبحوا قضية معقدة بدلا من أن يكونوا جزءا من النسيج الاجتماعي في أوطانهم.
ومنذ عقود اتجهت جماعات الإسلام السياسي والكيانات الداعمة لها لتجعل من المسلمين في تلك البلدان سلاحا من أسلحتها وورقة من أوراقها التي تتفاوض بها مع الحكومات هناك وتجني من خلفه كثيرا من المكاسب التي تدعم عملها السياسي والحزبي..
كانت المنابر والفتاوى والمؤسسات الإسلامية أشبه ما تكون بغرف التوجيه والتحكم التي سعت من خلالها جماعات الإسلام السياسي للتأثير في تلك التجمعات الإسلامية، وقد عملت في ذلك على حزمة من الإجراءات والأهداف كان من أبرزها بناء حواجز تقف ضد اندماج المسلمين في أوطانهم وبخاصة الجيل الثاني منهم، وإشاعة قيمة الغربة والابتلاء بصفتها الوصف الأبرز لحياتهم في تلك المجتمعات الكافرة.
لقد كان (فقه الضرورة) أبرز تلك الأدوات، ويطلق عليه أيضا: فقه الأقليات، وتكمن خطورة هذا الفقه في كونه يرسخ مبدأ الغربة والحياة المؤقتة لأولئك المسلمين ويجعلهم في انتظار التمكين والنصر (حتى يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه الخروج من تلك البلدان الكافرة).
اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا يضم تحته أكثر من ألف هيئة ومؤسسة تنتشر في مختلف أنحاء أوروبا، ومنظمة الشباب المسلم العربي التي نشطت في الولايات المتحددة والتي ركزت على استقطاب المبتعثين العرب وتجنيدهم خلال فترة السبعينات والثمانينات، ثم الانتشار الواسع للجماعة وسيطرتها على المساجد والمراكز الإسلامية، ولعبت قطر دورا محوريا في تمويل ودعم تلك المراكز والمؤسسات، وصولا إلى اللحظة التي باتت فيها العواصم والمدن الأوروبية تنام مع الثعابين.
تحول الوجود الإسلامي إلى ملف ضخم منذ بداية الأحداث الإرهابية التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت تفجيرات لندن العام ٢٠٠٥ الحادث الكبير الذي قتل فيه أكثر من 50 وجرح أكثر من ٩٠٠ وقد نفذه بريطانيون مسلمون من أصول باكستانية.
منذ اندلاع أحداث الفوضى العام ٢٠١١ وما أسفرت عنه من تراجع في مشروع الإسلام السياسي، ومع حالة التمدد الحزبي والحركي في أوروبا ومع ازدياد الغربة التي زرعتها تلك المؤسسات في أوساط المسلمين كان للإرهاب والعنف دور أكبر وأكثر إيلاما في العواصم الأوروبية.
رسخت تلك الحوادث أزمة المجتمعات المسلمة في أوروبا، وبات فقه الواقع وفقه الأقليات أحد أسباب تلك الأزمة.
لماذا كان مؤتمر أبوظبي ضروريا ومحوريا؟ أولا لأنه يقام في العاصمة العربية ذات التجربة العالمية في التنوع والاختلاف والتعدد والتعايش والسلم، ثانيا لأن التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة والتنامي الواسع لدور قوى الاعتدال والاستقرار في المنطقة وعلى رأسها السعودية والإمارات يفرض أدوارا تتجاوز الإقليم لتصل إلى مواجهة المشكلات الكبرى عبر العالم بصفتها دولا ذات ثقل واسع ومتعدد الجوانب، العامل الأهم أن استقرار صورة المسلمين في الغرب في بلدانهم من شأنه أن يمثل تصالحا بين صورة الإسلام بشكل عام والمجتمعات الأوروبية والعالمية بعيدا عن نظريات الصراع.
تم تتويج المؤتمر بالإعلان عن تأسيس المركز العالمي للمجتمعات المسلمة، والذي يمثل مبادرة رائدة ومحورية في إعادة بناء الوعي العام للمجتمعات المسلمة وفي السعي لتخليصه من هيمنة المؤسسات الحزبية والحركية، وصولا إلى بناء وعي إسلامي عام يجعل من المواطنة القيمة الأعلى ويجعل من المسلمين عناصر بناء وتنمية واعتدال في أوطانهم.
الأسبوع المقبل: كيف يمكن تأسيس فقه المواطنة؟
المصدر: عكاظ