كاتب و باحث سعودي
الانتحار وقتل النفس في ارتفاع وتزايد مستمر في المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة، خصوصاً بين فئة الشباب، فالإحصاءات الرسمية الصادرة في الكتاب الإحصائي لإدارة التخطيط والإحصاء بوزارة الداخلية تشير إلى أن عدد حالات الانتحار في تصاعد مستمر على مدى الأعوام العشرة الماضية، إذ بلغ بشكل عام عدد حالات الانتحار لعام 1430هـ 787 حالة، بزيادة مقدارها الضعف على العام 1420، أي أننا أمام معدل حالتي انتحار يومياً في المملكة وفق تلك الإحصاءات الرسمية، ويرى إختصاصيون ومسؤولون في الطب الشرعي أن الأرقام والنسب المعلنة أقل مما هي عليه في الحقيقة والواقع، وذلك لأكثر من سبب، وهذه الحالات التي بتنا نسمع عنها في وسائل الإعلام وبصورة متكررة تدق نواقيس الخطر حول معضلة وإشكالية هي في حال نمو وتزايد بشكل مخيف ومقلق.
منذ أسبوعين تحديداً نشرت إحدى الصحف المحلية خبر سقوط شاب من على جسر معلق شمال غرب الرياض، وقبلها بيوم نشرت إحدى الصحف خبر انتحار شاب في العقد الثاني بتعليق نفسه بشجرة بإحدى مزارع الجوف، ما يشير إلى ارتفاع نسبة هذه الحالات بين فئة الشباب هو ما أكدته دراسة اجتماعية ميدانية أعدها أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود بالرياض الدكتور صالح الرميح حول «العوامل المؤدية لمشكلة الانتحار وأساليب الحماية» من أن أكثر من نصف عدد المبحوثين في الدراسة ممن حاولوا الإقدام على الانتحار لم تتجاوز أعمارهم 29 عاماً، ومن العجيب اللافت أنه لا يزال بعض المختصين وغيرهم يحاولون دس رؤوسهم في التراب والهروب والفرار من مواجهة الواقع وتسطيح القضية بأنها لم تصل لحد الظاهرة، وأنها مجرد حالات بسيطة يتم تضخيمها في شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام! أو محاولة التبرير الدائم خلف دواعيها والتنصل من مسبباتها باختصارها في معظم الأحوال نتيجة دواعٍ وأمراض نفسية فقط، أو إدمان للمخدرات، أو مجرد ضعف في الوازع الديني وعدم الرضا بالقضاء والقدر، ومحاولة إسقاط تلك المسببات خلف كل حال أو محاولة انتحار! حتى أن داعيةً ومستشاراً أسرياً تصل إليه – بحسب قوله – رسائل عدة من شباب وفتيات ينوون الإقدام على الانتحار قد حمّل وبكل بساطة الإعلام والأفلام والمسلسلات الفاسدة أسباب تنامي حالات انتحار الشباب والفتيات!
ليس من الضروري أن تبلغ مشكلة ما درجة الظاهرة بالاتفاق، وأن تتكرر بدرجة عالية في المدينة التي أعيش فيها والحي الذي أسكن فيه حتى نشعر فعلياً بخطورتها وضرورة اتخاذ خطوات ومعالجة سريعة تجاهها، فهناك من المشكلات، نظراً لحدتها وخطورتها، تكفي أن تحدث ولو حالات بسيطة منها لتحرك الماء الراكد، وتثير انتباه الدولة والمسؤولين والمعنيين بضرورة الالتفات لدرس مسبباتها بكل جدية واتخاذ سبل المعالجة الاستباقية لها قبل تفاقمها واستشرائها.
الانتحار في كثير من الأحوال هو تعبير عن مدى حال الضغط التي يعيشها الإنسان التي قد تؤدي به إلى اعتناق فكرة الانتحار، فالإحباط واليأس الذي قد يشعر به الفرد، والقهر حينما يعيش ويستقر بين جنباته، قد يعبر عنه الإنسان بصور مختلفة ويترجمه لحالات متفاوتة في مستوى رد الفعل، ولكن أقساها وأعلاها صوتاً وتبليغاً هي حال الانتحار ومفارقة الحياة التي من خلالها يعبر ويصور حجم معاناته ومأساته للقريب والبعيد! لقد أوضحت الدراسة الميدانية التي أعدها الدكتور الرميح أن قرابة 70 في المئة ممن أقدموا على الانتحار كانوا ممن دخلهم لا يفي بتحقيق متطلبات الحياة في مجتمعنا السعودي، ولنا أن نتساءل ها هنا عن حال من لم يستطع أصلاً أن يمتلك دخلاً أو يحصل على وظيفة يعول نفسه وأهله من خلالها؟! لذلك وبملاحظة ومتابعة شخصية لعشرات الحالات المنشورة في السنوات الأخيرة في وسائل الإعلام الرسمية يتضح أننا أمام حالات شباب أمضى سنوات من عمره في الدراسة وهو في كامل طاقته ونشاطه، ولكنه بعد ذلك كله عاطل، سدت كثير من الأبواب أمامه، شباب لهم متطلبات وحاجات لم يستطيعوا تحقيقها وتلبيتها، شباب يحلم ويتمنى بأن يقيم وأن يبني أسرة، ولكن ظروفه وأوضاعه المعيشية حالت دون تحقيق أحلامه وآماله، فقد الأمل في تغيير المستقبل وتعديل الأمور، وحينها شعر باليأس والإحباط والنقص والميل للانعزال، حتى أصبحت الحياة بالنسبة له عبئاً لا يستطيع تحمله، لم يعد لديه فرق بين الحياة أو الموت، فهو كان يرى أمام عينيه مراراً موته المعنوي وهو على حياته!
إن ذلك الشاب في مدينة عرعر، الذي أقدم على الانتحار في آذار (مارس) الماضي، لم يقدم على ذلك إلا بعد أن بلغ به اليأس والإحباط مكمنه من الحصول على وظيفة يستطيع من خلالها أن يعول أهله وأسرته، فكانت المحاولة الأخيرة لمقابلة المسؤولين وشرح ظروفه ولكن دون أي جدوى، هذه الحال وغيرها تحتم بالضرورة إتاحة الوسائل كافة للشباب ليتكلموا ويعبروا عن مآسيهم ومعاناتهم، وأن يبادر المسؤولون بتقليص الفجوة في ما بينهم وبين هؤلاء الشباب للإنصات لهمومهم، ومعالجة مشكلاتهم بصورة جادة وعملية، وليس بمجرد الوعود والآمال الزائفة والحلول المؤجلة، وغياب كل ذلك من شأنه أن يؤدي حتماً للجهل بمعرفة حدود المشكلة وأبعادها وعواقبها وتركها تغلي على نار هادئة، وليس ببعيد عن ذلك أيضاً الإشارة لحال فتياتنا المنتحرات اللاتي يقودهن الكبت الاجتماعي والتسلط الذي يقمع الفتاة ويجردها من كينونتها ومعاملتها كفرد تبعي ليس له الحق في الاستقلال في الرأي والاختيار، وفي ظل العنف الممارس عليها من ذويها لليأس والإحباط والانتحار للتعبير عن انهيارها الذاتي أمام ضغوط هذه الحياة ومعضلاتها.
المصدر: جريدة الحياة