المحررون العسكريون..من مراسل حرب القرم إلى بانا العابـد

منوعات

سؤال: ما العلاقة بين بانا العابد الطفلة السورية الصغيرة التي استطاعت قبل أيام الهرب من حلب، ووليام هاوارد المراسل الصحفي البريطاني المولود أوائل العقد الثالث من القرن 19؟!

جواب: للوهلة الأولى لا علاقة البتة.. هاوارد يعد أول مراسل صحفي عسكري محترف في العصر الحديث، كلفته جريدة «تايمز أوف لندن» بتغطية حرب القرم عام 1854 عندما كان يبلغ من العمر 33 عاماً.. وبانا طفلة عمرها 7 أعوام عاشت خمسة منها تحت القصف ووسط الدمار في المدينة السورية المنكوبة.

لكن، الجمع بين الاثنين في جملة واحدة ، داخل مشهد واحد ، مثير للاهتمام.. لأن المقارنة بينهما، تكشف كيف تغير العالم وتبدلت الصحافة ، حتى لو استمرت الحروب على حالها.. بشعة كما كانت دوماً.

وبطريقة أو بأخرى، يمكننا اعتبارهما زملاء .. نعم زملاء لأنهما، كل بطريقته، قدما باللغة الإنجليزية صورة مروعة للحرب في أبشع حالاتها. وفي الحالتين كانت روسيا وتركيا طرفاً أساسياً في الحربين التي تفصل بينهما نحو 160 عاماً.

كان هاوارد صحفياً محترفاً ، ولد في إيرلندا ثم انتقل إلى ليفربول ببريطانيا، وبدأ مسيرته كمراسل عسكري مع «تايمز أوف لندن» عندما أوفدته لتغطية الحرب في الدنمارك عامي 1849 و1850. ثم أرسلته لتغطية حرب القرم التي اندلعت بين الإمبراطورية العثمانية (تدعمها بريطانيا وفرنسا) والإمبراطورية الروسية.

أما بانا العابد فقد ناضلت من أجل البقاء على قيد الحياة مع والدتها مدرسة اللغة الإنجليزية وشقيقيها في الشطر الشرقي من حلب عندما تعرضت المدينة للقصف والتدمير. واعتادت توقيع تغريداتها باسم «بانا ووالدتي».

هاوارد رفض أن يكون مراسلاً مرافقاً للقوات البريطانية، حتى لا يضطر لكتابة ما يمليه عليه القادة العسكريون في ساحة المعركة، وفضل أن يبقى مراسلاً حراً يكتب ما يشاء حسب مشاهداته. ومن ثم فقد كان عانى من حربين .. حرب يغطي أخبارها، وحرب تخوضها ضده المؤسسة العسكرية التي بلغ بها الأمر أنها أحرقت خيمته ذات مرة، بعد أن منعت الضباط من التواصل معه أو الإدلاء بأي تصريح له، ناهيك عن أنها شككت في وطنيته وولائه لوطنه بسبب تقاريره من ميدان المعركة.

بانا العابد لم تتبنّ وجهة نظر الحكومة السورية التي كانت تروج دعاية زائفة عما ترتكبه من جرائم مروعة في حق المدنيين بحلب، كما أنها لم تتبنّ موقفاً سياسياً محدداً.. فقط كانت تكتب عن ويلات الحرب وبشاعتها من وجهة نظر طفلة بريئة يفوق ما تراه قدرتها على الاستيعاب. لكن لم يمنع ذلك أن شكك البعض في وجودها أساساً أو قدرتها على بث مثل تلك التغريدات من تحت القصف والدمار في ظل انقطاع الكهرباء المستمر وضعف شبكات الاتصال.

هاوارد .. تأثرت تغطيته الخبرية كثيراً بالظروف التاريخية والتقنية المحيطة ، سواء فيما يتعلق بأسلوب الكتابة أو بعدد الكلمات. فقد كان يكتب جملًا طويلة مليئة بالتفاصيل والإيحاءات والاستعارات والتشبيهات، يركز فيها على الوصف مع كثير من التحليل.

على سبيل المثال، كتب هاوارد نحو 60 كلمة (450 حرفاً) في الفقرة الأولى فقط من تقرير شهير له نشرته «تايمز أوف لندن» يوم 25 أكتوبر 1854، بعنوان «المرتفعات أمام سيباستوبول»، وقد بلغ عدد كلماته نحو 800 كلمة.

بانا العابد .. كانت محكومة بقوانين «تويتر» الصارمة.. فقط 140 حرفاً في كل واحدة من تغريداتها، التي لم تكن أخباراً ولا قصصاً خبرية، بل كانت جملاً موحية ، موجزة تقدم لمحات ولوحات وتقارير مصورة (أحياناً) عن تداعيات الحرب على حياتها وحياة جيرانها ومدينتها، بلمسات طفولية بريئة.

هاوارد .. غطى الحرب قبل دخول خدمة التلغراف بفعالية، فكان يكتب قصصه ثاني يوم الأحداث ، ثم تأخذ أسابيع طويلة، قبل أن تصل من الجبهة إلى مقر صحيفته في لندن، بعد أن تمضي رحلة طويلة (قد تزيد عن شهر) على متن السفن والقطارات وظهور الجياد. والبعض كان يقول متهكماً إن ما يقرأه الناس في صحف ذلك الحين كان تاريخاً وليس أخباراً!.

بانا العابد .. كانت تكتب تحت القصف تقريباً، لتصل تغريداتها – قبل أن يرتد إليك طرفك – إلى نحو 370 ألف شخص يتابعونها حول العالم، وإلى آلاف غيرهم في الوقت نفسه.

هاوارد .. شككت الحكومة البريطانية، والجيش البريطاني نفسه، في صحة التقارير التي نشرها عن بعض أخطاء القيادة العسكرية وضعف قدرات الخدمات الطبية العسكرية وتفشي وباء الكوليرا والأمراض بين الجنود. وتم التشكيك في وطنيته، بل واعتبرت المؤسسة العسكرية صحيفته «تايمز أوف لندن» بأنها دعمت وساندت أعداء بريطانيا بنشر معلومات خطيرة عن وضع الجيش وسير المعارك.

بانا العابد .. عندما سألوا الرئيس السوري بشار الأسد عنها في مقابلة مع قناة «تي في 2» الدنماركية، قال «لا تستطيع بناء موقفك السياسي على فيديو يقوم بالترويج له الإرهابيون أو داعموهم، إنها لعبة الآن، لعبة بروباغاندا ولعبة وسائل الإعلام يمكن أن ترى أي شيء ويمكن أن تكون متعاطفاً مع كل صورة وكل مقطع فيديو تراه، لكن مهمتنا كحكومة هي التعامل مع الواقع».

هاوارد .. أثارت تقاريره ضجة كبرى بين أركان الحكم وفي أوساط الرأي العام في بريطانيا. فقد كانت المرة الأولى التي يقرأ فيها الناس مشاهد حية تعكس ويلات الحرب، واكتشف البريطانيون من خلالها جوانب من سوء إدارة القيادة العسكرية للمعارك ، لكن كان الأخطر هو فضح الأداء الكارثي للوحدات الطبية التي تسببت بضعف إمكانياتها وسوء أدائها في وفاة أعداد كبيرة من الجنود، الأمر الذي أجبر الحكومة على إعادة النظر في وحدات الإسعاف العسكري برمتها. بل تسببت تقاريره الصحفية في إسقاط حكومة اللورد أبردين.

بانا العابد.. أثارت اهتمام العالم خاصة في أوساط الميديا الغربية وخطفت الأضواء من المحررين العسكريين المحترفين ، بتغريداتها التي بدت مثل يوميات توثق وقائع الحرب في حلب. ومن خلالها عرف العالم كيف دمر القصف الوحشي البيوت وأزهق الأرواح. وبلغ الاهتمام ذروته يوم كتبت «الرسالة الأخيرة – تحت القصف العنيف الآن– لم أعد أستطيع الحياة بعد ذلك، عندما نموت واصلوا الحديث عن 200 ألف لا يزالون بالداخل، وداعًا، فاطمة». صحيح أنها واصلت التغريد مع والدتها، لكن كانت الأنفاس تلهث خوفاً على مصير الطفلة الصغيرة وعائلتها، التي نجحت مؤخرًا في الهروب إلى تركيا.

وعلى الأرجح، سيتضح لاحقاً ، مدى تأثير تغريدات الطفلة الصغيرة ومختلف التغطيات الإعلامية الأخرى على مصير الحرب في سوريا بصرف النظر عن موازين القوى.

لكن في الإجمال، كانت تغطية بانا شيئًا مختلفاً تماماً عن عمل المحررين المحترفين، إن لم يكن أكثر تأثيرًا وأكثر انتشارًا حتى مقارنة بما فعله زميلها الراحل مراسل حرب القرم.

ولم يكن بمقدورها أن تفعل ذلك ، لولا «تويتر» وقدرته الفائقة على الوصول لأعداد هائلة من البشر في لمح البصر، ولو حتى بكلمات قليلة موجزة ، يمكن أن يكون لها فعل السحر.

فالإعلام بدعم التكنولوجيا الحديثة ، جعل الحرب تدور في غرف النوم وقاعات الاستقبال بالبيوت . فالكل يشاهد ويتابع أدق التفاصيل. ومن ثم لا يمكن لأحد أن يتلاعب بالحقيقة أو يخفي جرائمه. فالصورة الحية والتغريدة وثيقتان دامغتان للتاريخ.

التلغراف غيّر أسلوب الكتابة الصحفية.. فكيف سيؤثر تويتر ؟!

رغم قدراتها التدميرية الهائلة، كان للحروب دوماً إسهاماتها في تطور الحضارة البشرية، بما في ذلك الصحافة. فقد لعبت دوراً كبيراً في زيادة حاجة الناس للمعلومات والأخبار. فانتعشت الصناعة وتطورت المهنة. وكانوا يقولون في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر إنه يمكن تعريف الأميركيين بأنهم «شعب قراء الصحف» من كثرة إقبال الناس على مطالعة الصحف لمتابعة تطورات الحرب الأهلية.

ومع ظهور التلغراف وبدء الاعتماد عليه كوسيلة لنقل الرسائل من مكان لآخر في القرن التاسع عشر، بدأ يتغير أسلوب الكتابة الصحفية. فقد أخذ المراسلون العسكريون يكتبون بإيجاز بدلاً من الإسهاب والإطالة لأنهم كانوا يدفعون تكلفة كل برقية بحسب عدد الكلمات.

وبالتالي ظهر الشكل التقليدي المعروف باسم «الهرم المقلوب» الذي تبدأ فيه التقارير بذكر العناصر الأكثر أهمية في القصة الخبرية، ثم العناصر المهمة، ثم التفاصيل الأخرى الأقل أهمية. في الوقت نفسه، تغيرت طريقة تفاعل القراء مع الأخبار لأنهم بدؤوا يدركون أن ما يقرؤونه ليس ماضياً حدث قبل أسابيع، بل هي أخبار جديدة وقعت أمس أو قبل أيام قليلة جداً. ومن ثم صار لما تنشره الصحف فعالية أقوى وأعمق.

ومن ثم، سيؤثر تويتر، على الأرجح، بسرعته الهائلة في نقل الأخبار وتغريداته التي لا تتعدى 140 حرفاً، في أسلوب الكتابة الصحفية، وربما تتراجع أهمية تفاصيل مثل الصفات والأحوال وحروف الجر، لتخلي الساحة للأفعال.

ليس ذلك فحسب، بل إن الإمكانيات المتاحة لمختلف التطبيقات الذكية مثل «سناب شاب» و«إنستجرام»، ستترك بالتأكيد بصماتها بقوة على طبيعة التغطيات التي تقدمها وسائل الإعلام لجمهورها.

من ثم، يمكن النظر إلى وضعنا الحالي في صناعة الإعلام باعتباره مرحلة انتقالية، نحو أوضاع جديدة تماماً.. لكن من الصعب تحديد طبيعتها أو ملامحها النهائية، لأن المهنة وقدراتها والظروف المحيطة بها تتطور بصورة مضاعفة وبدون تحكم من أي طرف، على الأقل لأن العنصر الأساسي في العملية الإعلامية، أو ما يمكن اعتباره «أدوات الإنتاج» صارت في أيدي الجميع.. المنتجين الحقيقين (الإعلاميين) والمستهكلين (الجمهور)، الذين أصبحوا أطرافاً فاعلة.. بفضل التكنولوجيا.. وبالتالي لابد من أن يؤدي تغير المعادلة على هذا النحو إلى تطورات مذهلة تفرضها ظروف الواقع المتغير. وهو أمر يتعين على القائمين على صناعة الإعلام الانتباه له كثيراً.

المصدر: الاتحاد