مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان
كثيرون كتبوا حول زياراتهم لمدن وبلاد مروا بها، وعواصم عشقوها وخطفت قلوبهم منذ الزيارة الأولى. وهناك ما يختلف من شخص إلى آخر، ويحلو لي أن أشاكس صديقتي التي تعشق باريس إلى درجة لا تصدق. أعرف أن هؤلاء الفرانكفونيين ينظرون إلى باريس باعتبارها مركز العالم، وإلى برج إيفل باعتباره الأيقونة التي لن تتكرر، حتى إن صديقتي تحرص في كل مرة تزور فيها باريس على السكن في الفندق نفسه، لسبب وحيد هو أن نوافذه الواسعة تطل مباشرة على البرج العتيد، ما يفتح الخيال والعين واسعين لتلقي ومضات أنواره التي ليست سوى شيء بسيط من أنوار باريس، مدينة النور والثقافة والمثقفين. في كل مرة نتحدث فيها عن باريس أذكرها بأنني لم أحب باريس حين زرتها ذات صيف لاهب، ولم أتمنّ تكرار زيارتها يوماً، باريس رائعة بلا شك كما يصفونها وأكثر، لكن للناس فيما يعشقون ولا يعشقون مذاهب!
هناك حالة جديدة في العلاقة بالمدن، اكتشفتها أثناء زيارتي الخاطفة للعاصمة الأذرية ( باكو). إنها حالة العلاقة الحذرة بعض الشيء، ربما بسبب الاقتراب من ثقافة جديدة تماماً، لذا أجدني أسير في أزقتها دون أن ألامس جلدها، أمر بالمغنين الذين يعزفون على جيتاراتهم، ويغنون بحماس ظاهر فلا تتسرب الموسيقى إلى داخلي. أتناول الطعام فأتذكر طعاماً آخر، أسكن أفضل فنادقهم فتبدأ المقارنات! لم أشتر تلك التذكارات التي اعتدت شراءها من بعض المدن التي أحببتها، ومع ذلك أشهد لهم بأنهم يتطورون بشكل واضح وسريع كدولة تريد أن تضع اسمها على خريطة السياحة العالمية!
قلت لشاب إماراتي كان يمشي في أزقة (باكو)القديمة: إذا عدت إلى هنا بعد خمس سنوات ستتغير هذه المدينة بشكل لن تصدقه، سألني كيف عرفت ؟ قلت له: لديهم التصميم ولديهم المال الكثير، باكو تسبح في بحيرة من نفط، كما إنها تتمتع بدرجة عالية من التسامح الديني، فرغم أنهم مسلمون ينتمون للمذهب الشيعي إلا أن طريقة تعاملهم مع كل شيء لا تمت للمذهبية إطلاقاً، فهناك مساجد وكنائس ومعابد لكل الديانات، احترمت ذلك الشاب الأذري حين قال (نحن نلتقي مع الجميع، لكن لا يمكننا التفاهم مع المتشددين والإرهابيين) ولذلك فلا إرهاب هنا، لكن هناك نزاع مسلح مستمر مع الجارة أرمينيا بسبب إقليم قرة باخ، فيفضل عدم ذكر أرمينيا أبداً!
أحببت الحس الأذري في التمسك بتفاصيل التاريخ والمحافظة عليه، والأمر يحتاج منهم إلى جهد أكبر وتحديث أعلى لإمكانيات المزارات والمتاحف وخدمات السياحة. كما أحببت هويتهم الطاغية في ملامحهم وموسيقاهم وطعامهم وأسماء أطفالهم، ودماثتهم في التعامل مع الغرباء، بالرغم من أنهم تعرضوا لسيطرة أكثر الشعوب قسوة: المغول والعثمانيين والروس!
المصدر: صحيفة البيان