ما كادت أن تمضي أيام على انشغالنا، معشر النساء، بقضية ضرب المرأة وأسبابه وتوابعه، ما بين مستهجن وشامت، ومن يدافع عنها ومن يحملها وزر ما تتعرض له، إلا وأتحفنا بقصة أخرى، وهي مقتل طفلة في الحسكة السورية على يد أحد عشر رجل من أقربائها، بما فيهم أخيها وأبيها، بذريعة “الشرف”، حيث لم ترض الفتاة الصغيرة الزواج من ابن عمها، فتم قتلها غسلاً للعار. ليصبح الضرب ترفاً أمام القتل.
وفيما ينشغل العالم بالوباء ودوائه ولقاحه وعلاجه، وبالمشاكل الاقتصادية التي خلفها، نجد أنفسنا أمام مجتمعات تتقهقر إلى الخلف، تحتاج إلى إعادة تأهيل على أصعدة مختلفة، وكأن العجز الذي تعاني منه يتجلى اضطهاداً للحلقة الأضعف، وهي النساء.
ورغم أن العنف ضد المرأة يشكل ظاهرة عالمية، إلا أن مجتمعاتنا تحتل النسب الأعلى في هذا المجال، ونحن نملك من العوامل ما يؤهلنا لكسب السباق، إذ لا زالت المرأة تنظر لنفسها باعتبارها ضلع قاصر، وهي ملك لذكور العائلة سواء أب أم أخ أم زوج، كأي متاع من مقتنياتهم، وبالتالي ليست مؤهلة للتحكم بزمام أمورها، ولا المطالبة بحقوقها، وإن حدث وتمردت على هذه القاعدة فسيجري تأديبها، وتستحق حينها ما تناله، وقد تشعر النساء الأخريات بالتعاطف معها، لكن لن يمتلكن الجرأة للتصريح بذلك، فالمجتمع لهن بالمرصاد.
ورب قائل أن هذا الكلام يحمل الكثير من المبالغة، فالمرأة في مجتمعاتنا نالت حقوقها وتعلمت وعملت في مختلف المجالات ولا ينقصها شيء، لكن وراء الأكمة ما وراءها، ولا يلبث أن يظهر اضطهادها عند أول اختبار، وما يخفيه المجتمع سرعان ما يطفو إلى السطح فأساساته ممتدة في العمق، يختلط في تربتها موروث من العادات والتقاليد ارتدت لبوساً دينياً، حتى حلت محله شيئاً فشيئاً منتحلة اسمه، وأصبح العقل الجمعي مقتنعاً أن الإسلام هو من أعطى المرأة مكانة وضيعة، وتصدرت مجموعة أساطير المشهد لتساعد في تكريس صورة مشوهة ألحقت بالدين زوراً وبهتانا، لتكون أكثر صدقية في نظر متلقيها.
واليوم من الصعوبة بمكان إقناع الناس أن كتاب الله لم يفرق بين ذكر وأنثى، لا في الدنيا ولا الآخرة، ولم يذكر ما يتعلق بقصة التفاحة ومسؤولية حواء عن خطيئة آدم، فلا ذكر لحواء أصلاً، ولا ضلع أعوج هنا، ولا ناقصات عقل ودين، ولا نساء معلقات من شعورهن في جهنم، وإنما الخطاب توجه للطرفين معاً والجزاء نفسه {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}، {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات —}، وهي ليست متاع ولا زينة فالناس في الخطاب القرآني ذكور وإناث، أما “النساء” فيمكن أن تكون جمع إمرأة أو لا تكون كذلك، وإن اعتاد الخطاب الديني على “الرجال قوامون على النساء” فمن يكمل الآية يرى بوضوح أن المرأة يمكن لها أن تمسك بقوامة الأسرة في حالات معينة، ولطالما رأيناها في حياتنا اليومية، لكننا نكيل بمكيالين ونغض الطرف حينما نشاء عن قصص نجاح الأسر التي تقوم عليها النساء، ناهيك عن الدول التي ولت شؤونها إمرأة وها هي تحقق نجاحاً منقطع النظير.
وفي آية القوامة نقفز لنرى {واضربوهن} ليصبح فعل الأمر جاهزاً للتنفيذ كلما رأى الذكر أن المرأة التي أمامه “ناشز”، علماً أن الفعل في الآية يأتي في سياق قوامة المرأة تحديداً واستبدادها وبالتالي من ضمن الحلول يأتي الضرب على قوامتها، وليس ضربها جسدياً، لا ضرباً مبرحاً ولا غير مبرح، ولا يمكن أن تتكرس في عقولنا فكرة أن الله أمر بضرب النساء، فالله لا يأمر بالمنكر، وهذا منكر، ومسؤولية النهي عنه تقع على عاتقنا كمسلمين مؤمنين بكتاب الله الذي بلغنا من رسوله (ص)، لكن يبدو أن المشكلة تكمن أننا بحاجة لاستنكار هذا الفعل أولاً.
أما الطامة الكبرى فهي قتل النفس تحت مسمى جريمة “الشرف”، والمفارقة أن تقترن أي جريمة بالشرف، دون أن يعي أولئك المجرمون أن الدين منهم براء، وكل ما في الأمر أنهم يطبقون أعراف لا تمت للدين بأدنى صلة، وأن هذه الموؤدة ستسأل يوم القيامة {بأي ذنب قتلت}؟
وما يجدر تذكره هنا أن لا رجم كعقوبة للزنى في كتاب الله، والزنى يحتاج لأربعة شهود حضروا الواقعة، وأن له طرفان، ولا تفعله المرأة وحدها إن فعلت، فيما يبدو أننا نحتاج أيضاً لإعادة تعريف الشرف، ففي مجتمعاتنا يمكن أن ترتكب كل الموبقات دون أن يهتز لنا جفن، إلا إذا تعلق الموضوع بالمرأة حينها فقط يمكن أن يشعر الرجال بالخزي والعار.
وإن كانت الأعراف صاغتها تدريجياً مجتمعات ذكورية واستكانت لها المرأة، فقد آن لهذه المرأة وعي حقوقها، وآن للمتنورين مد يد العون، لتحل أعرافاً جديدة تصوغها مجتمعات متوازنة تعتمد ما جاء في كتاب الله من خطوط عريضة، فتعطي لكل ذي حق حقه، لا تضرب فيها النساء ولا تضطهد ولا تقتل تحت أي مسمى، وإلا سنعود إلى نقطة الصفر عند كل منعطف.