كاتب سعودي
اشتهر في أدبيات العلوم السياسية ما يعرف بـ”المسألة الشرقية” (The Eastern Question) وهي تشير للمعضلة السياسية التي ظهرت لدى الإمبراطوريات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر مع ضعف الإمبراطورية العثمانية وفقدانها للسيطرة الفعلية على منطقة جنوب شرق أوروبا وبالأخص البلقان، حيث إن خروج الدولة العثمانية من تلك المنطقة بعد قرون من سيطرتها ونفوذها هناك شكل معضلة جيوسياسية حقيقية أمام الدول المتنافسة في حينه، ذلك الفراغ الذي نشأ بخروج العثمانيين من البلقان كانت إحدى تبعاته اصطدام القوى العظمى في تلك المنطقة، مما قاد لاشتعال الحرب العالمية الأولى. لقد كانت “المسألة الشرقية” معضلة حقيقية امتدت لعقود وشكلت حجر زاوية في تجاذبات الجغرافيا السياسية لأوروبا، ذلك لأنها كانت مسألة تتعلق بحدوث تغير جذري في الخريطة السياسية وليس مجرد تبدل بسيط في موازين القوى. مثل هذه التغيرات التي تعيد رسم الخريطة السياسية وتؤسس لموازين جيوسياسية جديدة تحفزها الأحداث والصراعات الكبرى التي تمر بها المناطق.
تمثل المسألة الكردية في منطقتنا حالة مشابهة نوعا ما “للمسألة الشرقية” وإن كان بوجه مختلف، ويعد الصراع في سورية المحفز الرئيس لهذا التغير الذي سيجعل من قضية الأكراد معضلة مستقبلية سيتعين على دول المنطقة التعامل معها، إما بنشوء دولة كردية جديدة في المنطقة كأقصى تقدير في أحد الاتجاهات، أو بتحول ساحة الحزام الكردي على امتداده لمنطقة ملتهبة ستؤثر على جميع دول المنطقة وتوازناتهم.
الحزام الكردي الممتد من غرب إيران مرورا بشمال العراق وجنوب شرق تركيا إلى شمال غرب سورية لطالما مثل ساحة تتمظهر فيها توازنات هذه الدول الأربع المهمة في المنطقة ومن خلفها التحالفات والمواءمات الإقليمية التي تشكل ظهيرا لهذه الدول. في المقابل مثل هذا الحزام حلم الأكراد لإقامة دولتهم كردستان الكبرى في المنطقة. إلا أن استعراضا سريعا لتاريخ الصراع السياسي داخل هذا الحزام يظهر مدى تعقيد المسألة الكردية وتعدد المعاملات الداخلة في معادلتها، حتى على صعيد الأكراد أنفسهم والذين رغم توافقهم جميعا في العرقية يتباينون سياسيا على عدة مستويات.
خلال الفترة التي سبقت حرب الخليج عام ١٩٩١ قامت كل من سورية وإيران بدعم حزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا. سورية استخدمت الحزب كورقة ضغط تفاوضية ضد تركيا لعدة ملفات، منها الأمن والحدود وحقوقها في مياه الفرات، بينما دعمت إيران الحزب من باب منافستها للنموذج التركي العلماني المدعوم بقوة أميركا. في المقابل لم تخلُ الساحة الكردية الداخلية من تبايناتها، فقبل عام ١٩٩١ كان التنافس السياسي بين أكراد العراق محتدما، الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني كان واقعا تحت النفوذ الإيراني، بينما الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني استعان بنظام صدام حسين لمواجهة الاتحاد الوطني. من جهة أخرى استعان صدام بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتمركز في شمال غرب العراق لمد نفوذه داخل مناطق الأكراد في سورية مع المجموعات الكردية المنافسة لحزب العمال، وذلك أيضا ضمن دائرة الصراع القائم بين نظامي البعث في كل من بغداد ودمشق.
بعد حرب الخليج عام ١٩٩١ تغيرت ديناميكيات التجاذب السياسي المحيط بالحزام الكردي. أصبح أكراد العراق أكثر اعتمادا على تركيا في توفير مظلة أمن لهم من خلال الحدود ومنطقة حظر الطيران التي فرضت على نظام صدام حسين، من جهة أخرى تعاون أكراد العراق (حزب بارزاني تحديدا) مع تركيا في مواجهة حزب العمال، وهو ما مهد لتركيا تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة ضد حزب العمال. وقامت تركيا بالتوازي بخطوات دبلوماسية تجاه سورية تمخضت عنها اتفاقية أضنة عام ١٩٩٨،وكذلك طرد عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال من سورية ولاحقا القبض عليه في عام ١٩٩٩.
مع حرب العراق عام ٢٠٠٣ شهدت اللعبة السياسية داخل الحزام الكردي تغيرا جديدا، فإضافة للتعاون السوري مع تركيا في مواجهة حزب العمال تحول الموقف الإيراني نحو معاونة تركيا أيضا بدلا من مساعدة حزب العمال ضدها، وكان الدافع الإيراني بالأساس حاجتها لتحسين علاقتها مع جارتها التركية في مواجهة التواجد الأميركي الذي حاصرها في كل من أفغانستان والعراق. التحالف الإيراني التركي الجديد ضد حزب العمال والذي وصل حد قيام إيران بقصف معسكرات الحزب التي كانت تدعمها في يوم من الأيام دفع حزب العمال لإنشاء حزب الحياة الحرة الكردستاني كحركة كردية مسلحة تمثل امتدادا له داخل إيران وبدأت هذه الحركة في القيام بهجمات داخل إيران.
في مقابل هذا التحول تغير موقف أكراد العراق بعد الحرب الأميركية حيث انتفت الحاجة للمظلة الأمنية التي كانت توفرها تركيا لهم مقابل نظام صدام حسين، وشكلت هذه المساحة الجديدة التي تم خلقها دافعا لإعادة العلاقة بين أكراد العراق وحزب العمال الذين لجأ بعضهم إلى منطقة جبل قنديل في العراق. كان دافع أكراد العراق لهذا التحول هو خلق ورقة تفاوض وضغط لهم أمام تركيا، وهي الورقة التي أثمرت بالتعاون التركي الكبير مع كردستان العراق وخاصة على الصعيد التجاري والاستثماري.
مع الربيع العربي والصراع في سورية، على وجه التحديد، عادت المسألة الكردية لتشهد تحولا في التجاذبات والمواءمات أقرب للوضع الذي سبق عام ١٩٩١، حيث عاد الموقف الإيراني لدعم حزب العمال ضد تركيا مدفوعا بتباين موقفي الدولتين حيال الوضع في سورية، وبين صيف ٢٠١١ وصيف ٢٠١٢ شهدت تركيا عدة هجمات من حزب العمال وقع على إثرها أكثر من ١٥٠ قتيلا. في المقابل استفادت تركيا من علاقتها المتميزة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق بقيادة بارزاني لمد جسور التواصل داخل سورية مع المجموعات الكردية المعادية أو المنافسة لحزب العمال، في الوقت الذي حاول فيه نظام الأسد، مدعوما من طهران، أن يدفع بحزب العمال والأكراد السوريين نحو مواجهة تركيا. ومع مطلع هذا العام حققت تركيا اختراقا كبيرا في ديناميكيات هذا الصراع من خلال التوصل لتفاهم مع عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال والذي أعلن قبل أسبوع تقريبا هدنة بين الحزب وتركيا في حدث تاريخي سيكون له انعكاسات كبيرة لو نجح.
المسألة الكردية في المنطقة ممتدة منذ مدة، وعلى الأرجح ستظل ممتدة لفترة طويلة، ولكن المؤشرات التي برزت بعد الربيع العربي وتحديدا الصراع في سورية تشير إلى أن المسألة الكردية لن تظل رهنا بنمط الديناميكيات القديمة، وإذا كان من المستبعد أن يحقق الأكراد حلمهم في دولة قومية في الوقت القريب، فإن الحزام الكردي في المقابل سيكون له منظومة تجاذباته الجديدة خلال الأعوام القادمة، وهو الأمر الذي يستدعي السؤال عن موقفنا حيال المسألة الكردية (للحديث بقية).
المصدر: الوطن أون لاين