عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.
سأفكر بصوت عالٍ وأستعرض عدداً من الاحتمالات حول «اختفاء» المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية: الأول؛ أن يكون وراء هذا العمل فلسطينيون ينتمون لأحد التنظيمات الفلسطينية. الثاني؛ أن يكون وراءه فلسطينيون لا ينتمون لأي تنظيم، أي محض تصرف فردي. والثالث؛ أن تكون إسرائيل وراءه ونفذته بأيدي عملاء فلسطينيين أو عن طريق جنودها.
السؤال الأهم: من المستفيد من عملية الخطف؟ متابعة تداعيات العملية، تشير بوضوح إلى أن محور اهتمام غالب الفلسطينيين والعرب (وأعني الصحافيين والنشطين على وسائل التواصل، أي الصوت العالي) يتركز في الدائرة الصغيرة، التي ترى الحادث من بوابة المتابعة اليومية بقليل من اللهاث والتشويق السينمائي، أما ردود الفعل الإسرائيلية فقد ذهبت لتتعامل مع أهداف أكبر بكثير من هذه الدائرة الصغيرة.
لقد ذهبت ردة الفعل الإسرائيلية لترسم أهدافاً تتجاوز بكثير العثور على هؤلاء الثلاثة، عبر التالي: إطلاق استعراض كبير اسمه «البحث عن المخطوفين»، إلى الحد الذي يعيد فيه الجنود الإسرائيليون تفتيش البيت الواحد في الخليل وقراها مرتين وثلاث مرات. الهدف هنا عرض جانبي للتلهية والتعمية على الأهداف الكبرى، التي تتجاوز هذا الهدف الذي يبدو عرضياً.
مَن رأى أن الثمن الذي تطلبه إسرائيل هو حرب على غزة فهو محق، لكن ليس انتقاماً من حماس لأنها «مشتبه جاهز»، بل لتحقيق مجموعة من الأهداف المترابطة التي تخدم هدفاً أساسياً أكبر. من قال إن هدف حرب كهذه هو ضرب بنية المقاومة فهو مصيب، لكن هذا ليس هو الهدف النهائي. الهدف الأهم للاستفراد بغزة في حرب دون الضفة الغربية، هو نفس الهدف الذي عمل عليه الإسرائيليون في حرب 2009:
تأجيج مشاعر أهلها ضد أهليهم في الضفة، عبر إظهار عجز السلطة الفلسطينية عن مناصرة غزة أو الرد بما يتجاوز الإدانة السياسية والأخلاقية ومناشدة المجتمع الدولي التدخل. لكن هذا العجز (وهو محصلة طبيعية لاختلال ميزان قوى بما لا يقاس) يستقبله بعض الفلسطينيين والبسطاء من الناس، ويحولونه تحت وطأة معاناة العدوان التي لا تطاق، إلى نقمة ضد السلطة الفلسطينية. لقد شاهدنا ذلك في عدوان 2009.
فالبسطاء، وحتى المثقفون، يطلقون الشكاوى بعفوية (آن لها أن تنضج قليلاً ) وببلاغة لفظية، وتأتي وسائل الإعلام الغربية لتكتب تلك القصص عن نقمة أهالي غزة ضد الضفة، وتعيد إنتاجها مرة تلو الأخرى ليأتي «ناشطو الفيسبوك» ويعيدوا إنتاجها، مستعيرين مفردات «قاموس الهجاء الفلسطيني» لترسخ الرسالة الأساسية: «حماس تقاتل والسلطة مستسلمة».
لن تمتد حبال الذاكرة لدى هؤلاء إلى الوراء قليلاً ليتذكروا سيناريو متكرر إلى حد الابتذال، في تلك السنوات التي أعقبت قيام السلطة الفلسطينية عام 1994؛ تقوم حماس بعمليات انتحارية، فترد إسرائيل بضرب الضفة ومؤسسات السلطة وخاصة الشرطة الفلسطينية.
وكانت الحجج الإسرائيلية تركز على أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن عمليات «حماس» وتطلب منها وقفها. توجت هذه السياسة في النهاية باجتياح جنين في 2002، وحصار الراحل أبو عمار في المقاطعة حتى تسميمه واغتياله في 2004. بعد ذاك تفرغت إسرائيل لغزة وأصبحت حماس هي الهدف وهي المسؤولة عن «الإرهاب» حسب الإسرائيليين.
وها هو الأمر يتكرر بوضوح مع تحميل إسرائيل لحركة حماس مسؤولية «اختطاف» المستوطنين الثلاثة، وها هو جون كيري وزير الخارجية الأميركي يسارع بالدعم: «هناك مؤشرات تفيد بتورط حماس في حادث الاختطاف». ترجمة هذا الكلام: «الحرب قادمة على غزة». السيناريو: «ضربات محدودة بقصد الاستفزاز، ردّ من حماس أو الجهاد الإسلامي استجابة للاستفزاز (على طريقة ضربني فيجب أن أضربه)، توسع دائرة الحرب».
تخريب المصالحة، ستبدو كلمة ملطفة لوصف الهدف الإسرائيلي الأساسي من كل ما يجري منذ «اختفاء» المستوطنين الثلاثة، وهذا الاستعراض وتداعياته هو ما يظهر على السطح، وما يمكن أن يلتقطه من يشاهد ويتابع ويحصر فهمه في ما هو ظاهر فحسب مستعيناً بـمنطق «الذكاء الظرفي».
يكرر الفلسطينيون وبعض قادتهم الأخطاء مرة تلو الأخرى، لأنهم لا يقرأون التاريخ جيداً، تاريخهم القريب فحسب من 1994 وحتى اليوم، عندما يحصرون أنفسهم في الدائرة الصغيرة للفعل وردود الفعل. هذه المرة، في تلك الدائرة الصغيرة لحادثة «الاختفاء» وتسلسل أحداثها، ويتابعون تصريحات مسؤولي السلطة ومسؤولي حماس، وكأنهم يتابعون معركة بين «الحارة الفوقا» و«الحارة التحتا».
يتعين أن لا يغيب عن أذهان المنشغلين بمسرحية البحث عن المستوطنين الثلاثة، أن إسرائيل تندفع إلى حرب مثل هذه تحت وطأة معارك تدميها في الصميم: حركة المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية التي كلفت الاقتصاد الإسرائيلي خسائر ستصل مع نهاية العام إلى ما يزيد على 6 مليارات دولار، وسيتأثر بها كل إسرائيلي، حسب وزير المالية الإسرائيلي يائير ليبد.
وإضراب الأسرى الذي دفع بقادة الأجهزة الأمنية إلى الطلب من الحكومة سن قانون يعطي الصلاحية للشرطة بإجبار المعتقلين على تناول الطعام. معركة الأسرى والمقاطعة الأكاديمية مؤلمة، لأنها تدفع بسمعة إسرائيل الدولية إلى الحضيض. وأخيرا القفز فوق الانقسامات التي خرجت للعلن وسط الحكومة الإسرائيلية، مع ظهور تيار ينادي بالتخلي عن المستوطنات وإبرام سلام مع الفلسطينيين. الأهم من هذا كله، الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي:
منع نمو مؤسسات الدولة الفلسطينية، عبر الوسيلة المثلى: إشعال الحرب الأهلية. المحصلة، لا يفعل حادث «الاختفاء» سوى تقديم مبررات لإسرائيل مثل الهدية، لتنفيذ أهداف أكبر بكثير من الحادث نفسه. وكل ما أتمناه أن يخيب أولئك الفلسطينيون المشار إليهم أعلاه، ظن إسرائيل ولا ينفذوا أهدافها، بقصر النظر والردح والهجاء.
المصدر: البيان