أنقرة – يوسف الشريف –
لا منتصر ولا فائز في الحرب التي انفجرت بين إخوة «الإسلام السياسي» في تركيا، رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وجماعة رجل الدين المعروف فتح الله غولن، والرهان الآن فقط على من سيخسر أكثر من الطرفين بعد أن «أبدع» كلاهما في كشف عورات خصمه وضربه تحت الحزام. وإن كانت المؤشرات حتى الآن تقول إنه من المبكر الحديث عن سقوط أحدهما بـ «الضربة القاضية»، وإن السجال قد يمتد شهوراً، فإن الخاسر الأكبر هو الديموقراطية في تركيا والاستقرار المجتمعي، فبعد أن كان أردوغان يلجأ إلى زيادة مساحة الديموقراطية في تركيا لمواجهة كل أزمة مع الجيش أو حزب العمال الكردستاني أو الانقلابيين، فإنه هذه المرة في حربه على غولن وجماعته يسير في اتجاه هدم جميع المكتسبات الديموقراطية في تركيا، وجعلها وقوداً في هذه الحرب التي أكلت جزءاً كبيراً من سمعته وهيبته في الشارع، بل إنه يذهب اليوم إلى أبعد من ذلك فهو في سعيه لإنقاذ نفسه يلعب بجينات تركيا وتركيبتها الفريدة التي أبقتها قلعة استقرار في الشرق الأوسط سابقاً.
يمكن تشبيه العلاقة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وبين جماعة فتح الله غولن بأنها علاقة تكافل منفعية، فحزب أردوغان الوليد الذي وصل إلى الحكم منفرداً، كان في حاجة إلى كوادر مخلصة لتنفذ سياساته ويستطيع من خلالها إدارة الدولة، لأن كوادر حزبه وقتذاك كانت قليلة عدداً وخبرة، فيما كانت جماعة غولن المتغلغلة في مؤسسات الدولة – بكوادرها المدربة والمطيعة – جاهزة لتقديم خدماتها مقابل المزيد من التغلغل والسيطرة في الخفاء كما اعتادت أن تفعل. وتكشف لنا الحرب الحالية أن كلا الطرفين لم يثق يوماً بالطرف الآخر، على رغم كل أشعار الحب والمودة التي كانت تظهر على سطح العلاقة بينهما في العلن. فالجماعة لم تثق بأردوغان بدليل أنها تجسست عليه وسجلت مكالماته الهاتفية الخاصة، وهو كذلك رفض إلغاء توصيات مجلس الأمن القومي التي فرضها عليه العسكر والرئيس أحمد نجدت سزار عام 2004، وتقضي بإنهاء جماعة غولن وفصل المنتسبين إليها من أجهزة الدولة وإغلاق أجهزتها الاقتصادية وأذرعها الإعلامية. فأردوغان رفض حينها تنفيذ التوصية، لكنه أبقاها مخبأة من دون أن يلغيها حتى عندما هيمن على مجلس الأمن القومي منذ أكثر من خمس سنوات، وها هو اليوم ينفذ.
كان كل طرف متأهباً للدفاع عن نفسه بشراسة أمام خطوة غدر محتملة ومتوقعة من الطرف الآخر. لذا، فإن غولن رفض حتى الآن كل دعوات قيادات الحزب الحاكم كي يعود إلى تركيا من منفاه الاختياري في الولايات المتحدة خشية تحريك ملف قضائي ضده، وهو الذي أفلت من قضية حركها ضده الجيش عام 1997 ضمن تحركات الجيش للانقلاب على حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان حينها، إذ كان الجيش أول من تنبه إلى تغلغل أفراد الجماعة في مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والأمن والقضاء، ودفع المدعي العام لإقامة دعوى على الجماعة وزعيمها بتهمة تشكيل تنظيم سري إرهابي هدفه تغيير نظام الحكم من خلال السيطرة على مؤسسات الدولة. وباشر الجيش طرد كل من يشتبه في انتمائه إلى الجماعة حينها، وهرب غولن إلى أميركا لينجو من حكم بالسجن في تلك التهمة، حتى «عادت المحكمة إلى صوابها» في الاستئناف الذي برأ الرجل وجماعته في عهد حكومة رجب طيب أردوغان.
في المقابل، ساعدت الجماعة من خلال رجالها في النيابة العامة والقضاء أردوغان في التخلص من جميع خصومه من عسكر وأتاتوركيين من خلال قضايا يقول أردوغان نفسه اليوم عنها إنها كانت ملفقة! حتى بلغ شره الجماعة وطمعها مداهما، فطالبت بالسيطرة على جهاز الاستخبارات وبدأت المعركة بعد أن رفض أردوغان ذلك وفضل ربط هذه المؤسسة التي كانت دائماً مستقلة – إلا من هيمنة العسكر في حقبة الهيمنة العسكرية التي انتهت قبل حوالى ست سنوات – وقرر أن يخضعها لحزبه، أو على نحو أدق قرر أن يخضعها لشخصه.
فضائح بالجملة وأسئلة بلا أجوبة
فضيحة قضية الفساد الكبيرة التي كشفها رجال غولن في القضاء، وتسريب المكالمات الهاتفية التي أجراها أردوغان مع رجال أعمال أو إعلام، والأخطر ذلك التسجيل المنسوب إليه وإلى ابنه وهما يحاولان التخلص من مبالغ مال كبيرة، كلها أثرت في شكل كبير في صورة أردوغان وكاريزميته في تركيا، ومهدت لمحاكمته بتهمة الفساد مستقبلاً في أي وقت يخرج من الحكم. فمن خلال هذه الأساليب يبدو للوهلة الأولى أن الجماعة كسبت الحرب النفسية ونجحت في تشويه سمعة أردوغان وصورته لدى كثيرين في تركيا وخارجها. لكن، في مقابل هذه الشفافية في كشف العورات إلى أقصى الحدود، فإن أسئلة كثيرة تبقى بلا أجوبة في هذا الإطار. من ذلك إصرار الناخب التركي على دعم أردوغان وحزبه في الانتخابات، على رغم كل ما تكشف من فساد وتسلط، فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن حوالى 75 في المئة من الشارع التركي متأكد من أن أردوغان وحكومته فاسدان، لكن استطلاعاً بيّن أن حوالى 40 في المئة من الناخبين سيصوتون لحزبه (بتراجع بين 7 و10 في المئة من الأصوات فقط)، أي أن هناك ما بين 15 و20 في المئة سيصوتون لأردوغان وهم مقتنعون بأنه مسؤول عن عمليات فساد كبيرة. غير أن هذه الاستطلاعات أجريت قبل كشف التسجيل الأخير لأردوغان مع ابنه بلال، ما يجعل الرهان صعباً في الانتخابات البلدية في 30 الجاري التي يراهن فيها أردوغان على الاحتفاظ بكثير من البلديات، لا سيما اسطنبول وأنقرة، وأن يكسب بلدية إزمير معقل اليسار، مع العلم أن الأصوات في هذه البلديات الثلاث تبدو متقاربة مع تقدم مرشحي الحزب الحاكم فيها بقليل.
ويبدو حديث أردوغان عن وجود دولة داخل الدولة، وعن تغلغل هذه الجماعة في أجهزة الدولة، عاماً وغير محدد ويفتقد الدليل، على رغم وجود اقتناع بأن جماعة غولن منتشرة فعلاً في أجهزة الدولة وتعمل وفق أوامر واضحة. وحتى الآن غيّر أردوغان أو فصل آلافاً من موظفي الدولة في أكثر الأجهزة حساسية، الأمن والقضاء والشرطة والاستخبارات والتعليم والمالية، وذلك من دون أي دليل مادي على انتماء هؤلاء إلى الجماعة، ناهيك بأن الحديث نفسه عن الجماعة يبدو هلامياً من دون شيء ملموس، فلا مكان تتجمع فيه هذه الجماعة ولا شروط عضوية وأسماء ولا هيكل تنظيمياً، ويقال إن إعضاءها يخفون انتماءهم الديني، بل وحتى تدينهم في أوساط العمل حتى لا ينكشفوا، وظهرت تعليمات في هذا الصدد في تسجيل فيديو لفتح الله غولن أثناء أحد دروسه عام 1994 بين طلابه يحضهم على التوجه إلى كليات الحقوق والإدارة والعمل في أجهزة الدولة والجيش وإخفاء تدينهم في الأوساط العلمانية من أجل تثبيت أقدامهم في تلك المؤسسات (وهو شريط الفيديو الذي أقيمت على أساسه الدعوى على غولن بتهمة تشكيل تنظيم سري لتغيير نظام الحكم). كما أن أردوغان وقياداته الأمنية لم يستطيعوا أن يضبطوا أي شبكة اتصالات تظهر كيف تعمل هذه الجماعة، أو كيف تتلقى الأوامر من زعيمها وكيف تتخذ قراراتها وتحرك أذرعها من دون تواصل واضح بين أعضائها.
في اختصار، ليس في يد أردوغان أي دليل على وجود تنظيم منتشر في أجهزة الدولة، غير السمعة القديمة المتواترة عن جماعة غولن والكثير من الإشاعات التي يؤيدها ما يحدث عملياً على الأرض، لكن من دون دليل ملموس وواضح على وجود تنظيم. وهذا يطرح أسئلة عدة: كيف يعمل «تنظيم» جماعة فتح الله غولن؟ وهل هو فعلاً متصل بجهات خارجية كما يقول أردوغان؟ هل هناك تراتبية في هذه الجماعة؟ وكيف لا تستطيع الحكومة بكل أجهزتها كشف هذا التنظيم وقادته وشبكة الاتصال والتواصل بينهم؟ وإذا بلغ عدد أعضاء الجماعة في أجهزة الدولة الآلاف فعلاً، وكانوا يتحكمون في أمن تركيا ويطلعون على أدق أسرارها، فعن أي تركيا نتحدث إذاً؟ هل نتحدث عن تركيا الدولة التي يحكمها حزب العدالة والتنمية، أم عن تركيا الدولة التي كان يحكمها غولن وجماعته تحت غطاء حزب العدالة والتنمية؟ كيف يمكن الحديث عن أمن وطني أو قومي في تركيا وهناك جماعة يتهمها رئيس الوزراء بأنها «تنظيم سري» لديها أكبر «أرشيف» لكل مكاتبات الدولة، بما فيها العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وأكبر أرشيف لتسجيلات صوتية سرية لأهم شخصيات القيادة السياسية والعسكرية وكانت تعمل على جمع ذلك طوال السنوات الست الأخيرة على الأقل؟ وهل يضمن أردوغان عدم تسريب أي قرار سري جديد تتخذه حكومته يخص السياسة الخارجية أو الأمن الوطني؟ هذه قضية خطيرة للغاية وتتجاوز خلاف أردوغان مع جماعة غولن لأنها قضية أمن وطني، فأي حكومة قد تأتي مستقبلاً ستكون هي الأخرى أمام هذه التحديات والتساؤلات. وللأسف، فإن المسؤول الأول عن تضخم قدرات هذه الجماعة وتحولها إلى «أخطبوط» استخباراتي هو أردوغان نفسه الذي تحالف معها وسلمها مفاتيح تركيا ضمن سعيه للتخلص من خصومه بأسرع طريقة. كذلك، فإن تباهي المعارضة بنشر فضائح الحكومة المسربة من جانب جماعة غولن قد لا يطول، لأن المعارضة لا تعرف ما الذي تخبئه الجماعة لها مستقبلاً، فقد تفاجأ في أي وقت بحرب مشابهة من جماعة غولن وتسريبات جديدة لخصوصياتها. وعليه، فإن على الجميع في تركيا العمل ضد هذا الأسلوب بدلاً من استغلاله موقتاً ضد خصمه السياسي كما فعل أردوغان سابقاً.
إن أخطر ما في هذه المرحلة التي تمر بها تركيا هو الأسلوب الذي لجأ إليه أردوغان للدفاع عن نفسه أمام تهم الفساد المدعومة بتسجيلات صوتية لم يستطع حتى الآن، أن يرد علي أي منها أو يدحضها، هو لجوؤه إلى زيادة التسلط والهيمنة على أجهزة الدولة وهدم المكتسبات الديموقراطية، بل واللعب بجينات التركيبة الاجتماعية للشعب التركي في شكل بات يهدد الاستقرار في هذا البلد، فالقوانين الثلاثة التي سعى لإصدارها من البرلمان (قانون مراقبة الإنترنت، وقانون إعادة هيكلة القضاء، وقانون الاستخبارات الجديد) تعمل على إخضاع المؤسسات الأمنية والقضائية لحكم رجل واحد، وتحد من حرية الرأي والتعبير وعمل المعارضة على الأرض، وتخرج هذه الأجهزة عن حيادها الضروري في أي دولـــة ديموقراطية. وقد كُشف أخيراً استخدام أردوغان الاستخبارات من أجل تحديد هويات المتقدمين للعمل في الوزارات واختيار المتدينين واليمينيين من بينهم بعيداً من شرط الكفاءة، ورفض الأكراد والعلويين واليساريين مهما بلغت كفاءتهم. ولا شك في أن لهذه التصرفات أثراً بالغ السوء على النسيج الاجتماعي لتركيا التي يتكون شعبها من خليط غير متجانس من القوميات والمذاهب، جمع بينهم شعور وطني ونظام علماني على مدى العقود الثمانية الأخيرة. أما الآن فإن استراتيجية أردوغان تقوم على التفريق بين هذه المكونات وجلب المكون الديني اليميني الى جانبه من أجل الحرب على بقية المكونات التي هي أقل عدداً من أجل ضمان الأصوات في الانتخابات. ناهيك بأن تسييس الأجهزة الأمنية والقضاء والاستخبارات في الشكل الذي يقوم به أردوغان اليوم، سيدفع إلى فقد الثقة في هذه الأجهزة، والدليل أن أحداً لن يصدق اليوم أي حكم من محكمة يصدر على التسجيلات المسربة لأردوغان، لأن ثمة اقتناعاً عاماً بأن المحاكم باتت إما تابعة لغولن أو لإردوغان، فما عاد هناك قضاء مستقل أو جهة فصل محايدة. وهذا المرض الذي يقترن اليوم مع سيطرة قوية لأردوغان على وسائل الإعلام وقمع غير مسبوق للمعارضين والمخالفين في الرأي، يجعل نصف الشعب التركي (أو حتى 60 في المئة حالياً) ممن لن يصوتوا لأردوغان يشعرون بأنهم منبــــوذون في بلدهم ومواطنون درجة ثـــانــــية، وأن هناك دولة أخرى جديدة داخل الدولة التركية مكونة من أردوغان وحزبه وناخبيه فقط ترعى مصالحها بنفسها.
غل ضحية الحرب
وسيكون الرئيس عبدالله غل الذي حــــافظ طـــــوال سنوات حكمه على مسافة بينه وبـــيــــن خط أردوغان التسلطي، وأبدى في كل مرة احتجاجاً وإن صامتاً على تصـــرفات الحكومة، ربما أول ضحايا الحرب بين غولن وأردوغان، إذ يبدو غل في موقف حرج للغايـــــة، وهو مضطر للمصادقة على قوانين الاستخبارات والقضاء والإنترنت التي سيستخدمها أردوغان في حربه ضد غولـــن، لأن هذه القوانين تنتقص من معايــــير الاتحاد الأوروبي للديموقراطية، وتنتهــــك حـــرية الرأي والتعبير. ويقف رئيس البلاد حائراً في الحرب بين أردوغان وغولن محاولاً الحفاظ على موقف حيادي، والحياد هنا يضر بسمعته السياسية، لأن كثيرين في الشارع التركي انتظروا أن يلعب دوراً إيجابياً ليس لوقف هذه الحرب، إنما من أجل الحفاظ على الديموقراطية في تركيا، فليس المطلوب من رئيس الجمهورية الحياد في حرب بين طرفين، إنما أن يمنعهما من هدم الديموقراطية خلال حربهما العبثية هذه، وهو ما لم يستطع غل أن يفعله. بل حاول تبرير موقفه من المصادقة على قوانين الحكومة بالقول إنه إذا اعترض عليها فإنها ستعود إلى البرلمان ليصادق عليها نواب الحزب الحاكم مرة ثانية وتعود أمامه كما هي حرفياً. فصلاحيات الرئيس محدودة، وبعد رفضها مرتين سيكون الرئيس ملزماً توقيعها في المرة الثالثة، ومع توافر الأكثرية العددية للنواب الموالين للحكومة، فإن الرئيس لا يبدو قادراً على الاعتراض على هذه القوانين. لكن هذه الحجة لم تقنع كثيرين توقعوا من غل أن يعترض من باب تحديد موقف ضد أي طرف يحاول العبث بالديموقراطية. وكان بإمكان الرئيس أن يخرج ليرفض وجود جماعة داخل الدولة ويحاول أن يرسم خريطة للحكومة من أجل التخلص من هذه الجماعة ولكن في شكل لا يمس الديموقراطية بل يعزّز الحريات. لكن غل اعتبر أن أي موقف قد يتخذه من تصرفات أردوغان قد يحسب في شكل آلي وكأنه دعم لغولن أو للطرف الآخر، وهو أمر لم يرد أن يجازف بتجربته، خصوصاً أن الأمور تسير باتجاه عدم ترشح أردوغان للرئاسة في آب (أغسطس) المقبل، وأن غل الذي يرغب في ولاية رئاسية ثانية، سيحتاج إلى دعم حزب العدالة والتنمية في معركته الانتخابية مقابل مرشحي أحزاب المعارضة. لكن هذه الحسابات قد لا تكون صحيحة. ففضائح أردوغان وحكومته قد تستمر حتى آب المقبل ومفاجآت غولن قد لا تنتهي، كما أن تأثيرات القوانين الأخيرة على حرية التعبير والديموقراطية ستظهر وستنعكس غضباً شعبياً على الحكومة ومن ساعدها أو على الأقل لم يقف في وجهها. ويتوقع أن تتحد المعارضة في الانتخابات الرئاسية من أجل إطاحة من ستقول إنه عجز عن الوقوف في وجه حكومة متسلطة، أو حتى إبداء موقف رافض من تصرفاتها، وحينها سيحسب غل على حكومة أردوغان شاء أم أبى، ولن تقنع الناخبين تصريحاته أو تبريراته، مع ازدياد رغبة الشارع في وجود قوة تكبح جماح هذه الحكومة. وبما أن قانون الانتخابات الرئاسية الجديد يشترط حصول الرئيس على 51 في المئة من الأصوات في جولة أو اثنتين، فإنه لن يكون من السهل على غل أو أي مرشح تدعمه الحكومة أن يحصل على هذه النسبة إذا أيّدت المعارضة في الجولة الثانية المرشح الخصم.
«الإسلام السياسي» أو اليمين المحافظ
وفيما تجرى مراجعة تجربة تنظيم «الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط وكذلك الإسلام السياسي في شكل عام، فإن أزمة غولن – أردوغان شكلت أيضاً فرصة مهمة لإلقاء الضوء على هذا التيار في تركيا حيث من المفترض أنه الأكثر تفهماً للديموقراطية والأقرب إلى ممارستها من أقرانه في العالم العربي. فهذه الأزمة أظهرت أن رفع شعار الإسلام السياسي والتظاهر بالعمل وفق مرجعية دينية لم يمنعا حدّة الخصام واستخدام كل الوسائل المحرمة أخلاقياً في الخصومة بين طرفين يدعيان أن مرجعيتهما إسلامية. وكشفت أيضاً أن غولن وأردوغان هدفهما الأول هو السيطرة في شكل مطلق على الحكم لا الديموقراطية. والأخطر من هذا، أن تجربة الحرب بين الطرفين أظهرت ضعف الإيمان بالديموقراطية لدى الناخب المتدين والإعلام المحسوب على هذه التيارات الدينية. فالإعلام الإسلامي الذي كان يدعم الديموقراطية وخطوات الحزب الحاكم تجاهها تحول إلى وحش مفترس يكيل الاتهامات بالخيانة لخصمه «الإسلامي» الآخر، ويستخدم أفظع الوسائل في الدفاع المستميت عن الطرف الذي يمحضه الولاء، خصوصاً وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة. كما أن الناخب المتدين المؤيد قلباً وقالباً لأردوغان قدم بقاء الأخير وحزبه في السلطة حتى لو أدى ذلك إلى تخريب الديموقراطية، وفساد في الحزب ونهب لثروات الدولة، إذ إن النقاش داخل الحزب الحاكم حول قضية الفساد واحتمال أن يكون أردوغان فعلاً جمع ثروة طائلة من وراء الفساد كان ضعيفاً جداً، على رغم إيمان كثيرين منهم بأن هذا حصل فعلاً، إذ لم يجرؤ أحد في الحزب أو التيار الديني التابع لأردوغان في الإعلام والشارع أن يخرج ليقول «ماذا لو كانت هذه التهم صحيحة؟ لماذا نضحي بالحزب والتجربة الحزبية من أجل شخص أياً يكن هذا الشخص؟».
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى في فترة الهيمنة العسكرية، كان هناك علمانيون ويساريون وأتاتوركيون ينتقدون حكم العسكر ويطالبون بالحرية والديموقراطية، وسعى هؤلاء لدعم أردوغان في حربه على الهيمنة العسكرية من أجل تحقيق مكاسب ديموقراطية، لكن في المقابل لا نجد كاتباً في تركيا إسلامياً، أو تياراً داخل حزب أردوغان ينتقد ما يقوم به رئيس الوزراء اليوم من تسلط وكمّ للأفواه، بل على العكس نجد الدعم المطلق والهجوم من دون أي حجة مقنعه أو دليل على أي طرف ينتقد أردوغان. هذا يدفع إلى القول إن هذه الكتلة من التيار الديني والإعلام الإسلامي لم تكن صادقة في دعمها الديموقراطية في بداية حكم أردوغان، بل كانت تدّعي ذلك عندما ترى أنها في صف حكم زعيمها، لكنها اليوم تقدم الزعيم على الديموقراطية. وبهذا يثبت حزب العدالة والتنمية أنه تيار شخص وليس تيار تجربة كانت ناجحة، وكان يمكنها أن تستمر في النجاح لو أن أبناءها كانوا صادقي النيّات.
المصدر: الحياة