إعلامي وكاتب اقتصادي
على مدى العقود الماضية سيطرت الأفكار المضللة على عقول الكثير من شبابنا وبناتنا، وشكلت بيئة مضطربة انشغلت في جدال غير ممنهج اعتمدت على النقل الضعيف وغير المسند، ووجهت بفكرها بعض المجتمعات إلى مجتمع متفرغ لمناقشة قضايا لا قيمة علمية لها ولا تنموية، ومن ثم انقسم المجتمع إلى تحزبات فكرية متشددة ما بين مؤيد ومعارض ولم يصل إلى هذا الحد فحسب، بل إنه بدأ ينعكس سلباً على حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، وبدأ نفوذ هؤلاء على مؤسسات ومرافق الدولة، وبدا واضحاً أنك – إن لم تكن صاحب هذا أو ذاك وموافقاً على أفكاره وآرائه، وإن لم تكن منهم – لن تجد وظيفة أو عملاً، وستتعطل كل أعمالك، وتبقى في صراع مع بقية التجمعات والأفكار والآراء. وفي كثير من الأحيان كانت الخلافات تصل إلى داخل الأسرة بضرورة أن تسلِّم بمبدأ الانتماء الفكري.
هذا الأمر الذي شكّله أفراد أو نقله أشخاص كان هدفهم ليس فقط تبني رؤية أحادية إنما هو فرض فكر محدد، وحوّلوها من أفكار خاصة إلى أفكار يجب أن تعمم عنوةً على الآخرين، لهذا تحول هؤلاء المروِّجون إلى ساحة الحرب وإقصاء الآخر من أجل تقديم أجندتهم.
على مدى أكثر من 70 عاماً هناك محاولات، إما بفرض أجندات وأفكار لبعض الأحزاب والجماعات الخارجية ومحاولة إدخالها إما عن طريق أشخاص مؤثرين أو من خلال المؤسسات الدينية والجامعات الحكومية، فتحولت إلى جهة لتفريخ الأفكار المضللة، وساعد في انتشارها وتغلغلها في المجتمع ظهور بعض الشخصيات التي تؤجج الموقف، مستفيدةً من قربها من أصحاب القرار.
وهذا الموضوع وضع المجتمع المحلي محل شكك، وكثير منهم اعتبر أن الاعتراف بهذه الأفكار والتوجهات يعني توافق الأفكار مع رؤية الدولة، باعتبار أن من يروّج لهذه الأفكار هم من الأشخاص المقربين والملازمين للكثير من القيادات الحكومية وبعض الشخصيات المؤثرة.
التيارات الفكرية المضللة والمحرضة والمروِّجة للكثير من الأحزاب والتجمعات كانت كثيراً ما تمر بقنوات رسمية، لهذا وجدت طريقاً سالكة، إلا أنه مع الانفتاح الفضائي والإعلامي وظهور مواقع التواصل الاجتماعي انكشف أقنعة كثير من المروّجين الذين كانوا يلبسون عباءة الدِّين من أجل تمرير هذه الأفكار، فكانت النتيجة أنهم انكشفوا على حقيقتهم وأنهم مضللون وليسوا أصحاب فكر تنموي، بل يهدفون إلى زعزعة أمن الوطن وتشتيت وحدته.
في الجانب الآخر، كانت مؤسسات الدولة تمارس الصمت أمام ما يحدث من تسويق وتقسيم المجتمع إلى تكتلات، منها طائفية وأخرى قبلية وغالبيتها فكرية متعددة، ومنها ما هو محرض ضد المجتمع، إلا أن «الربيع العربي» حوّل مسار هذه التجمعات والأحزاب إلى طريق أخرى فأصبحت تشكل خطراً على الحكومات ومستقبلها السياسي.
بيان وزارة الداخلية الأخير الذي وضع قائمة بالتيارات والجماعات المحظورة وملاحقة كل من ينتمي إليها هي خطوة مهمة لوقف المد الفكري المضلل، جاءت بعد أن «استوت الطبخة» وتمدد في شكل كبير داخل مجتمعنا وفي بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا، بل أصبح هناك من يدافع عن هذه المنظمات ويجاهد من أجلها ويجادل، وربما يقاتل.
بيان وزارة الداخلية ركَّز المنتمين إلى هذه الجماعات والتيارات، فيما لم يأتِ إلى ذكر المسوّقين والرؤوس الكبيرة التي قادت هذه التوجهات في المجتمع، أو محاسبتهم أو معاقبتهم، بل إنهم كانوا نجوم الشاشات والبرامج. وأستغرب كيف أن مركز الحوار الوطني في السعودية لم يهتم بهذا الموضوع وبقي طوال هذه الأعوام يناقش قضايا ومواضيع هامشية لم تنعكس إيجاباً على حوارات الناس ونقاشاتهم ولم تحل قضايا اجتماعية مهمة مثل العنصرية والقبلية.. أليس حوار الجماعات والتيارات كان موضوعاً مهماً يستحق النقاش؟
الآن وقد وقعت الفأس في الرأس فإن الجهات المختصة ستجد صعوبة في مكافحة هؤلاء الأشخاص، وبات يشكل هذا الأمر قلقاً كبيراً لها، ولاسيما أن المجتمع لا يتجاوب مع مثل هذه التحركات، فهناك تجارب عدة، منها سكوته عن الكثير من الشباب الذين ينتمون إلى تنظيم القاعدة وجماعة الحوثيين، فالكثير من القبائل كانت تؤوي هؤلاء في منازلهم وتقدم لهم العون والمساعدة والدعم المادي واللوجستي، وأسهمت في تهريب الكثير منهم إلى الخارج، من دون علم الجهات المختصة، بل إن أكبر دعم مادي للجماعات الإرهابية كانت تأتي من الداخل، والدليل تلك المبالغ التي تجدها دائماً السلطات الأمنية حينما تُحبط أي عملية إرهابية، وقضايا غسيل الأموال التي ارتفعت في الأعوام الأخيرة في شكل لافت، إذ وصلت إلى أكثر من 60 بليون ريال، وببلاغات يصل عددها إلى نحو ألفي بلاغ، فيما ينمو هذا النشاط غير المشروع بنسبة 20 في المئة سنوياً.. فمن يقدم لهم المال والسلاح ويقدم لهم الأمان؟
من المؤكد الصراعات السياسية في المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية أفرزت لنا جيلاً متابعاً لهذه التيارات والجماعات وبصمت كبير من مؤسسات الدولة.
أضم صوتي إلى صوت وزارة الداخلية، بل نمد أيدينا إليها، للقضاء على هذه الجذور الخبيثة والأفكار التي حرمتنا أعواماً طويلة التفكير في التنمية البشرية والاقتصادية والارتقاء بوطننا نحو سلم المجد، وجعلتنا ننصرف بكامل فكرنا وعقلنا لصراعات مذهبية وطائفية وأفكار لا تبني وطنناً ولا مجداً ولا حلم مواطن شريف.
هذا القرار يحتاج إلى تقنين القنوات الفضائية التي انتشرت في شكل مفرط، وهي تروّج لأفكار وتؤجج في المجتمع، كما تحتاج إلى مراجعة تأشيرات العمل. الاستقدام المفرط حول مجتمعنا إلى مرتع لكل المهن ليس فقط سوق العمل، بل منهم خطباء مساجد ومعلمو تحفيظ قرآن، ليست لهم تجارب ولا خبرة. وزارة الداخلية لا يمكنها أن تتولى حل هذه الأمور وحدها، بل تحتاج إلى وقفة الجميع معها، ولا ينتهي الأمر فقط بإصدار البيان.
المصدر: الحياة