يخلط بعضنا أحياناً بين المثقف الحقيقي وبين “الملوسن” الذي يجيد “الكلام” بصوت عالٍ في المجالس والمناسبات. في مجتمعات “الظاهرة الصوتية” مهما تكن قدراتك العلمية وخبراتك الوظيفية فأنت ستبقى دوماً في الظل لأن “الملوسن” هنا هو المفكر والمثقف وصاحب الرأي السديد.
في مجتمعاتنا، من يستطيع الكلام بصوت عالٍ يكون أكثر المؤهلين للصدارة! أما المثقف المحترم، الذي يزن الكلمة قبل النطق بها، والذي يخشى أن يحتكر الحديث في “المجالس”، فهو عندنا إنسان “بسيط” وعلى “قد الحال”. أنت تجيد رفع الصوت، أنت –إذاً– جدير بالمنصب ورأس المجلس! وإن كنت ممن تربى على أن من آداب المجالس الكلام بأدب وعدم الاستئثار بالحديث فأنت قد توصف كمثل من لا “يهش ولا ينش”!
من “المَرجلة” في ثقافتنا الكلام بصوت مرتفع مع “فهلوة” في الحكايات والبطولات. وهذا المشهد ربما قبلناه لو كان من خلال مسلسل بدوي يعبر عن تجربة خلت. المشكلة أنها صارت ظاهرة حتى في أوساط مجتمع المثقفين وأهل الإعلام. لم يعد مقياس الكفاءة علمك وخبرتك وما يمكن أن تقدمه وتنتجه. المقياس هنا هو مستوى “صوتك” ومدى قدرتك على الاستحواذ بالكلام وما تضيف إليه من “بهارات” كالنكتة وشيء من النميمة والنفاق. ولكي تتفوق أكثر وتكسب أي منافسة محتملة مع أي “ملوسن” محتمل، عليك أن تضيف إلى “فهلوة الكلام” التي تجيدها جملاً بلغات أجنبية، وعنوان كتاب صادر للتوّ، مع استشهاد عابر بخلطة سحرية من الأسماء من أمثال فوكوياما وتشوميسكي وتوماس فريدمان. طبعاً إن حفظت بعض الأبيات للمتنبي ومظفر ونزار وأضفت لها بعضاً من قصائد “البدر” فقد تقدمت على كل “ملوسن” سبقك أو أتى بعدك.
في العالم العربي، لا تتعب على عقلك ولا تُتعبه. فقط درّب صوتك على النبرة العالية وتعلم كيف “تأخذهم بالصوت”. وعندها تضمن “رأس المجلس” أينما وطئت قدماك!