خاص لـ هات بوست:
ليست جلسات مناقشة الرسائل العلمية مجرد إجراءٍ أكاديمي يختتم به الباحث سنوات بحثه، بل هي مرآة للوعي العلمي في مؤسساتنا الجامعية ومراكزنا البحثية، وميزان دقيق يزن نضج الفكر الأكاديمي ومقدار التزامه بأخلاقيات البحث والعدل والإنصاف، وهي لحظات وجودية يتقاسمها الباحث والمناقش والمؤسسة التعليمية، وتُعد فرصة سانحة لإعادة النظر، وتعديل الاتجاهات، وإضاءة الواقع العلمي الراقي، غير أنّ هذه الجلسات-في كثير من الأحيان- تتحول من فضاءٍ لتداول المعرفة إلى ساحةٍ لتمركز الذات الأكاديمية، ومن حوارٍ بحثيّ (أنيق) إلى عرضٍ سلطويّ (تسلطي) يتخفّى في عباءة النقد العلمي.
و-هنا- يكمن الخطر، فحين تنحرف المناقشة عن مقاصدها الأصيلة، لا تتأذى الرسالة وحدها، بل تتصدع فلسفة البحث العلمي نفسها، فما يبدو مجرد ممارسات فردية، هو في جوهره خلل في البنية الفكرية التي تنظّم الفعل العلمي وتضبط روحه.
وحين ينسى المناقش موقعه التربوي يتحول من شريك في العملية النقدية إلى قاضٍ يُحاكم وفق ما يراه دون تمييز بين ما يُقال وبين ما ترتكز عليه العملية البحثية (الهادفة)، وهو ما يمكن تسميته بخطأ الوعي بالموقع، فالمناقشة ليست محكمة، والباحث ليس متَّهَماً، المناقش الحق ليس سلطةً تُصدر حكماً، بل عقل ناقد يُسهم في إنضاج الفكرة، ولكن حين يتحول النقد إلى إدانة، وتُختزل الجلسة في استعراضٍ معرفي يطغى عليه جانب (الاعتداد بالذات)، تتحول المناقشة إلى فعل إقصاء لا فعل إضاءة.
إن المناقش الذي يدخل القاعة وفي ذهنه أن يُثبت تفوقه المعرفي، قد حكم مسبقًا على البحث بالعجز، إنه لا يقرأ الرسالة بقدر ما يقرأ ذاته فيها، ومن -هنا- يُصبح الحوار العلمي مسرحًا خفيًّا لصراع الأنا، حيث يُستبدل سؤال الحقيقة بسؤال التفوق، ويُضحّى بالعلم في سبيل مجدٍ شخصي عابر.
وليس أشد وقعاً في المناقشات من أن يُقاس كلّ جديد بمسطرة المألوف، وأن يُرفض كلّ ما لا يشبه ما تربّى المناقش عليه من أنساقٍ منهجيةٍ ماضية، فالمناقشة في أصلها مساحة اختبار للفكر (المتحرّك)، وليست حراسةً على قوالب جامدة، وتلك مصيبة عندما يصل المناقش إلى محاكمة الجديد بمنطق القديم، فيقع في إشكالية الخطأ في المعايير، وإشكالية توقع أن الحقيقة ثابتة ومحصورة في نمط واحد، بينما الواقع العلمي يثبت أن الحقائق تنمو وتزدهر في كنف التجريب، والتحول إلى أدوات بحثية أكثر تطوراً وضبطاً.
والأدهى من هذا حين يصرّ المناقش على أن تكون كلّ البحوث امتداداً لذائقته الفكرية، فإنه يقتل روح التجديد، ويغلق باب الاجتهاد العلمي، فالرسائل وُجدت لتضيف إلى الحقل، لا لتكرّر ما فيه، والمناقش الذي لا يرى في الاختلاف إلا خطراً، لا يُدرك أن المعرفة لا تتقدم إلا عبر إعمال الفكر والبحث في الأعماق، لا عبر التكرار، والإشكال العميق حين يُدان الباحث بأن فكره خارج النسق (يُغرّد خارج السرب)، وأنه جرّب أدوات بحثية غير مألوفة لدى المناقش.
وثمة مشكلة تتعلق في غياب البعد الإنساني في النقد، فحين يتحول النقاش إلى مواجهةٍ شخصية (الرسوب الأخلاقي)، تُختزل القيمة العلمية في الأداء الفردي، وتُستبدل لغة الفكر بلغة التهكم أو الاستعلاء، وهو ما يُوقع في خطأ (منهجي إنساني) يكمن في غياب العدالة في الخطاب الأكاديمي، ويُسلم إلى ادعاء احتكار العلم وقصره على فئة معينة.
لست ضد النقد الحقيقي الذي يكون هدفه علمياً بشكل انسيابي مرن، تعلوه النزاهة في المقصد، ويغمره النبل في اللغة، لأنّ المعرفة في جوهرها عمل أخلاقي قبل أن تكون عملًا تقنياً، والمناقش الذي لا يفرّق بين نقد الفكرة والإساءة لصاحبها، يُدمّر بغير وعيٍ الثقة بالبحث والعلم معًا.
تابعت عدداً كبيراً من المناقشات العلمية (الحقيقية)، لكن المحزن حين تتحول المناقشة إلى وسيلة لتكريس الذات الأكاديمية، فيتحول النقاش من توجيه علمي رصين إلى محاولة لإثبات الذات، وهو خطأ واضح في الغاية، ولذلك.. بعض المناقشين يظن أن دوره أن يُثبت سلطته المعرفية لا خدمة الحقيقة، وهو-هنا- يُغيّب المقصد العلمي ويجعل الخطاب أدائياً يميل إلى إعلاء المظهر على الجوهر.
لا بد أن يُدرك المناقش أنّ المناقشة ليست منبرًا للخطابة، ولا مجالًا لتذكير الآخرين بالخبرة أو المكانة، بل هي مجال لإعادة بناء الفكرة على نحوٍ أعمق، المناقش الحقيقي لا يُطفئ نور الباحث، بل يوجّهه، إنها القدرة على فهم فلسفة (الموقف)، وإدراك أبعاده وخفاياه.
وأخيراً.. حين يفقد المناقش نقاء المقصد، يُصبح كل ما يقوله، مهما بدا علمياً، فارغًا من الروح والتأثير العلمي المطلوب، لذا فإن النية الأكاديمية النزيهة تجعل المناقش يرى في الباحث امتدادًا للعلم، لا خصمًا يجب تقويمه، وهي التي تدفعه لأن يُعلّم بتواضعه أكثر مما يُعلّم بعلمه، فالمعرفة لا تتغذّى على الجدل، بل على الاحترام المتبادل.
وما لم يُدرِك المناقشون أنهم هم السبيل إلى إحياء الفكر لا إخماده، وتغذية الباحث لا تحجيمه، فستبقى المناقشات تُنجب رسائل ضعيفة؛ لأنّها تُمارس في بيئةٍ تخشى التفكير وتكافئ التقليد، وتُكرّس لاجترار القديم دون إخضاعه للنقد والتحليل.
أيها المناقشون إنها دعوة لإعادة بناء النسق القيمي للبحث العلمي من منطلق احترام التعدد المنهجي، وأن الاختلاف ليس تهديداً للنظام المعرفي، بل شرط (أصيل) لاستمراره ونمائه، وأن التنازع الخلاّق بين الرؤى طريق قويم لإثراء العلم وازدهاره.
