على وقع أبيات عروة ابن الورد والمتنبي وحافظ إبراهيم التي ألقاها مسرحيون من ملتقى «تاء الشباب» بعربية جميلة «كانت لنا برداً على الأكباد» كما يقول حليم دموس، بدأ احتفال المنامة بيوم اللغة العربية أول من أمس، في «المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي» الذي زُيّن بالحروف العربية وأشكالها ولوحات للفنان الراحل أحمد باقر. هو احتفال يختتم عاماً من النشاطات والمبادرات الثقافية الزاخرة التي شهدتها «المنامة عاصمة الثقافة العربية 2012»، لكن وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة أرادته بسيطاً كلغتنا العربية ذات الإيقاع الموسيقي، وبعيداً عن البروتوكولات والرسميات والخطابات الرنانة التي لم تستطع التقدّم بلغة ابن منظور.
لكن هذا العيد الذي بدا ظاهرياً جميلاً وإيجابياً، ويحمل في طياته اهتماماً على مستوى كبير من الوعي، فضح الهوّة التي وصلت إليها اللغة العربية وفشل المبادرات في إحيائها والنهوض بها. فتركّزت المداخلات على أهمية بذل الجهود الجماعية، بدءاً من الفرد والأسرة والمؤسسات الأهلية والتربوي والإعلامية وصولاً إلى أصحاب القرار، للنهوض باللغة العربية باستراتيجية فعالة على الأرض لا بدراسات وملفات مسجونة في الأدراج أو تعرض في المؤتمرات الكبيرة كتحف فنية جامدة.
وعاد النقاش إلى أهمية الالتفات إلى معايير البحث والترجمة والتأليف، وضرورة النظر في تطوير المعاجم والقواميس العربية الحديثة لتشبه لغة العصر وتفهم تطلعات العرب الذين يخوضون ثورات ربيعية، إضافة إلى ضرورة إجراء بحث تقني في اللغة نفسها وعلاقتها بالمجتمع العربي الذي صرف القرن العشرين وهو يحاول النهوض بلغته.
ويأتي السؤال هنا، في غمرة الربيع العربي: متى سيأتي دور ثورة اللغة العربية لتتخلّص من ديكتاتورية الجهل والطغيان والاغتراب والاستعمار، لتلبس عَلَم الفخر؟ متى سيُعاد الاعتبار إلى لغة ابن المقفّع التي يخجل غالبية الشباب العرب التحدث بها بحجة أنها ليست لغة علم واستخدام وتكنولوجيا، وليست لغة عصر؟ ومتى سنفرض على المؤسسات الدولية والسفارات الأجنبية والمراكز الثقافية الموجودة في العالم العربي احترام لغتنا، والتوجّه إلينا بدعواتها وخطاباتها وبياناتها بالعربية؟
عرضت الروائية والناشرة اللبنانية رشا الأمير لنشأة العربية وأطوارها ومراحل ازدهارها عبر القرون وتراجعها الذي وصل إلى حدّ الاغتراب الآن، معرّجة على أهمية كتاب لسان «العرب لابن منظور» الذي «كان غذاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش اليومي» كما أسرّ لها ذات يوم، لافتة إلى أن العربية كانت تمرّ بأزمات منذ زمن طويل حين نعاها الشاعر المصري حافظ إبراهيم (1872- 1932) في قصيدة «رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي». وتطرّقت إلى أطوار الكتابة بالحروف العربية المنتصرة التي وصلت إلى فارس وتركيا وأبواب الصين وغرب أفريقيا. ومرّت على العربية كلغة علم وتربية نطق بها كثير من المستعربين الذين علّموا الطب والفيزياء والكيمياء بلغة الضاد، مثل كورنيليوس فان دايك الذي درّس الطب في الجامعة الأميركية في بيروت (الكلية السورية) التي أُسست في العام 1866، بالعربية، إلى أن قامت تظاهــرات ورحل المستعربون وتحوّلت المناهج العلمية في الجامعة إلى الإنكليزية.
عين ساهرة
ولفتت الأمير إلى أن فكرة ترجمة الكتب العلمية سقطت منذ زمن في لبنان ومصر، وارتأى هذان البلدان تعلّم الفرنسية والإنكليزية بدل الترجمة لكون الأولى أوفر اقتصادياً وتختصر الوقت. لكنها تساءلت: «كيف ننهض باللغة العربية اليوم كلغة علم، وليس لدينا قاموس وأبحاث معمّقة في غور المعاجم العربية؟». وأكدت أن عند العرب كل الإمكانات للنهوض بلغتهم التي هي هويتهم، سواء من الناحية الاقتصادية أو من ناحية العقول الخلاقة والمبدعة التي وصلت إلى العالمية وأفادت البشرية، مثل الأميركي السوري الأصل ستيف جوبز واللبناني مايكل دبغي. ورأت أن الأمر يحتاج إلى قرارات سياسية حاسمة من الحكومات العربية وآلية تنفيذية، إضافة إلى الجهود الفردية والأهلية.
وبعد المطالعة التي قدّمتها الأمير وُزّع إعلان «لننهض بلغتنا» الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي بعد مؤتمر أقيم في دبي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
اللغة العربية التي تعتبر من أقدم اللغات كانت الشغل الشاغل للدكتور والفنان والباحث البحريني الراحل أحمد باقر الذي افتتحت وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة معرضاً للوحاته ذات الحروف العربية التشكيلية التي تعرض للمرة الأولى تزامناً مع الاحتفال بـ «يوم اللغة العربية» في المركز الإقليمي للتراث العالمي. هذه الحروف المتموّجة كأمواج بحر المنامة والأخاذة في رسمها، ليست أدوات للتواصل في حياة أحمد باقر وبحوثه فحسب، إنما هي حياة وشغف وعطاء كتبها بخطّ يده في كتاب بعنوان «عين اللغة»، توفي قبل أن يكمله وينشره، كما قالت زوجته حنان التي تشغل منصب مديرة العلاقات العامة في المركز الإقليمي، خلال تقديمها للكتاب في الاحتفال.
وألقى أستاذ الإعلام في جامعة البحرين عوض هاشم محاضرة عن أهمية هذا الكتاب الذي ينتمي إلى البحوث المتعلّقة بنشأة اللغة العربية، والأشكال التي ظهر فيها التعبير اللغوي، والأدوار التي اجتازها حتى وصل إلى مرحلة الأصوات ذات الدلالات الوضعية، والنماذج التي احتذاها في وضع الكلمات وتعيين مدلولاتها.
الأمم المتحدة ويوم اللغات
في كلمة ألقاها مدير مركز الأمم المتحدة للمعلومات في البحرين والإمارات العربية المتحدة نجيب فريجي، قال إن «العربية أكثر لغات المجموعة السامية متحدثينَ، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، إضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا».
ولفت إلى أن «اللغة العربية ذات أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي لغة مقدسة (لغة القرآن)، ولا تتم الصلاة (وعبادات أخرى) في الإسلام إلا بإتقان بعض كلماتها. هي أيضاً لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما كتبت بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى».
وعرض كيف أثّر انتشار الإسلام وتأسيسه دولاً، في ارتفاع مكانة اللغة العربية، وكيف أصبحت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون، «مؤثرة بذلك تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على كثير من اللغات الأخرى في العالم الإسلامي، كالتركية والفارســية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الأفريقية مثل الهاوسا والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية وبخاصة المتوسطية منها كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية».
وذكّر بأنه «في إطار دعم تعدد اللغات وتعدد الثقافات في الأمم المتحدة (العربية من لغاتها الرسمية الست)، اعتمدت إدارة الأمم المتحدة لشؤون الإعلام قراراً عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم الذي يُحتفل به في 21 شباط (فبراير) من كل عام بناء على مبادرة من منظمة «يونيسكو» للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة». وأفاد بأن الاحتفال باللغة العربية تقرّر في 18 كانون الأول (ديسمبر) كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د-28) المؤرخ 18 كانون الأول (ديسمبر) 1973، وقررت الجمعية بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
المصدر: صحيفة الحياة