النص بين وهم التحديد ومنطق التعدد.. قراءة في اضطراب المرجعيات اللسانية

آراء

خاص لـ هات بوست:

        أضحى مفهوم النص في الدراسات اللسانية المعاصرة مفهوماً إشكالياً مقلقاً، ليس بسبب غموضه الاصطلاحي فحسب، بل نتيجة تشظّي المرجعيات النظرية التي حاولت الإحاطة به وضبط حدوده الدلالية والمنهجية، فالنص لم يعد وحدة لغوية منغلقة، ولا امتداداً خطياً للجملة، بل غدا فضاءً تفاعلياً مركّباً تتقاطع داخله اللغة مع الخطاب، والبنية مع التداول، والدلالة مع السياق، في شبكة علاقات مضطربة تتجاوز التصورات اللسانية الكلاسيكية، وأسهم هذا التحوّل في نقل البحث النصي من منطق التحديد البنيوي الصارم إلى أفق الانفتاح التأويلي، الأمر الذي عمّق الإشكال بدل أن يحسمه.

      وانطلاقاً من هذا التعدّد المرجعي، تبرز إشكالية مركزية حول إمكانية تعريف النص تعريفاً جامعاً مانعاً دون الوقوع في الاختزال أو الصراع المفاهيمي، كيف يمكن للنص أن يحتفظ باستقلاله البنيوي، وفي الوقت نفسه هو منفتح على سياقات إنتاجه وتلقّيه، ومتداخل مع أصوات وخطابات وثقافات متعددة؟

         إن هذه الإشكالية لا تمسّ المفهوم نفسه فحسب، بل تمتدّ إلى المنهج وآليات التحليل، بما يجعل دراسة النص اليوم حقلاً معرفياً تتنازعه رؤى لسانية وفلسفية وتداولية، لكل منها منطقه ومسلّماته وحدوده، ومن -هنا- تأتي ضرورة مساءلة مفهوم النص في ضوء هذا التعدد، ليس بقصد المعرفة النهائية أو المتحققة، بل بغية الكشف عن شروط إمكانه وحدود اشتغاله داخل الفكر اللساني المعاصر.

           ويمكن لنا افتراض أن كل التعريفات الخاصة بالنص انطلقت من فلسفة الجملة وليس من الفلسفة الموسعة للنص، كما أنها جعلت من النص رسالة لغوية تشغل حيزا معينا، فيها جدلية محكمة تتضمن المفردات والبنيـة النحوية، وهذه الجدلية تؤلف سياقا خاصا بالنص نفسه (عالم النص)، فينبغي إذاً أن يكون لكل نص هدف وبناء محكم وسياق يؤدي به إلى إحكام عملية الاتصال.

         وتلك التعريفات أو المفاهيم انتقلت في فهم النص من النص نفسه بوصفه بنية لغوية، إلى النص باعتباره وحدة تواصلية، ثم تشكّله ليكون ممارسة خطابية سياقية تتفاعل مع السياق الاجتماعي والثقافي.

        ولنا أن نتوقع أن مفهوم (النص) لم يحظَ بمكانة مركزية في اللسانيات الغربية إلا في مراحل متأخرة نسبياً، إذ ظلّ لفترة طويلة مفهوماً هامشياً خاضعاً لتحليل الجملة وبنيتها الداخلية، غير أنّ التحولات المعرفية والمنهجية التي شهدها الدرس اللساني في النصف الثاني من القرن العشرين أسهمت في إعادة الاعتبار للنص بوصفه وحدة دلالية وتواصلية مستقلة، تتجاوز حدود الجملة نحو أفق أوسع يشمل المعنى والسياق والاستعمال.

       ومع تطور التداوليات وتحليل الخطاب، اتسع مفهوم النص ليشمل أبعادًا تتجاوز اللغة إلى الفعل الاجتماعي، ففي منظور ميشيل فوكو، يُفهم النص بوصفه ممارسة خطابية تُنتج المعرفة داخل منظومات السلطة، ولا يمكن فصله عن شروط إنتاجه التاريخية والثقافية، أما في اللسانيات الوظيفية، خاصة عند مايكل هاليداي، فالنص حدث تواصلي تحكمه وظائف ثلاث: تمثيل الخبرة، وبناء العلاقات الاجتماعية، وتنظيم الخطاب، وبهذا المعنى، يصبح النص فعلاً لغوياً موجّهاً، لا تُفهم بنيته إلا في ضوء سياقه الاجتماعي ووظيفته التداولية.

      ورغم اهتمام اللسانيين الغربيين بعلم النص، واتجاهاتهم المتعددة في فهمه، وتحقيق إجراءاته، وقناعتهم الراسخة بنتائجه في ميادينه المختلفة، لكن ينبغي التأكيد على أن ” أكثر الأفكار والأدوات التي نادت بها هي في الحقيقة ذات أصول (لغوية تراثية) عميقة راسخة أعيدت صياغتها، ولم يحل ذلك التغليف الجديد من خلال مفاهيم ومصطلحات حديثة دون إمكان الكشف عن أصولها، وتحديد موقعها في التراث المغضوب عليه”.