كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
ظل (أبو جهاد) يناضل لأفكاره اليسارية ويبشر بها في المجتمع السعودي الموغل في رأسماليته. المتعاقب الدوري على ناتج محلي بتريليون ريال في العام الواحد. لم يكن أبو جهاد ذلك اليساري الذي يمشي وحده في فلك هذه الأفكار المنقرضة، لكنه كان اليساري الوحيد الذي عرفته على الحافة النهائية من نقطة اليسار.
كان ـ مثلاً ـ يلعن الفكرة الاشتراكية لأنها تهجين وتخفيف لأفكار اليسار، ولأنها ـ كما يرى ـ مؤامرة كبرى لحذف آلاف الأسطر الحمراء من النظرية الماركسية. وفي المجتمع السعودي ظل أبو جهاد مثل من يحاول أن يسحب بذراعيه الهزيلتين شاحنة هائلة من قاع الوادي، إلى حيث يراها أن تكون: في أعلى الجبل.
لكنه ـ وللحق ـ ظل علامة كبرى على تسامحنا مع الأفراد من حملة الأفكار، فلم يعاقب ولم يسجن ولم يحاكم رغم أنه عاش لعقود يوزع (بطاقة أعماله) على الآلاف في المنتديات والمعارض الثقافية وأروقة الجامعات، وحتى مقاهي الشباب المختلفة. ربما لأنه أوغل في (يساريته) لدرجة أن أحداً لم يأخذه بذرة شاردة من الجد، أو أنهم رأوا فيه شخصاً منفصماً ببرهان بيولوجي. حتى في هيئته ومظهره، كان يلبس بدلة رديئة وحذاء جلدياً حافاً بلا جوارب، ويسير بسيارة صنعت منذ ثلاثين عاماً مثلما اختار أن يسكن في حي “العمل”، وربما كان محظوظاً أن يجد في مدينته حياً بهذا الاسم المنقرض. وللمفارقة أنه كان يملك في بلدته الأصل بقايا مزرعة وهبها (للأسر الكادحة) كما هي أدبيات اليسار، وفي العام الأول من موسم الحصاد كانت (صفراً) بجوار مزرعة جاره الرأسمالي التي أنتجت مئة طن من القمح، ثم عاد ووهب نصفها صدقة على أسر أبي جهاد في مزرعته التعاونية.
وحين سألت عنه الأسبوع الماضي قال لي صديق مشترك: إنه شاهده مؤخراً في زواج ابنه الأكبر وقد حضر بالبشت والشماغ ورتب شعره وبلل بشرته وضمخ ملابسه بروائح باريس؛ لأن أولاده اشترطوا عليه (أن يحضر بعد أن يترك هذه الخرابيط والبهدلة). حتى ابنته الكبرى أصبحت محامية كبرى لبنك محلي وشهير. حتى ابنه لم يعد (جهاد) بعد أن غير اسمه إلى (بدر). لقد تركوه وحده.
المصدر: الوطن اون لاين