اليوم… فيروز هي من تقول لزياد: “ما بنكون سوا”

آراء

خاص لـ هات بوست: 

صيف 1972 لم يكن عابراً على عائلة الرحباني.

فيه، سقط عاصي فجأة — الجلطة كانت أسرع من الوعي، وأقسى من خشبة المسرح.

توقّف قلب الإبداع لحظة، لكن الصوت ظلّ واقفًا… لأن فيروز غنّت، ولأن زياد لحّن للمرة الأولى.

وفي صيف 2025…

رحل زياد، بصمت لا يُشبه ضجيج عبقريته، وكأنّ القدر أراد أن يُقفل الدائرة التي فُتحت هناك، على خشبة بعلبك، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك اللحظة التي عزف فيها ابن السابعة عشر حزنه الأول.

عاصي مرض… فابتدأ زياد.

وزياد رحل… فكأنّ شيئًا فينا انتهى.

لنعد بالزمن إلى صيف عام 1972، كانت فيروز تستعد للوقوف على خشبة مهرجانات بعلبك في عرض مسرحية “المحطة”.

كلّ شيء كان كما اعتاده الناس: فيروز على المسرح، عاصي ومنصور في الكواليس، وزياد، الشابُّ الهادئ، يتنقّل بين البروفات، يحمل في عينيه موسيقى لم تُكتب بعد.

ثم… سقط عاصي.

جلطة دماغية أقعدته، شلّت جانبه الأيمن، وأخذته من مكانه الأزلي خلف الستارة إلى سرير مستشفى لا موسيقى فيه، ولا جمهور.

لكن المسرح لا ينتظر، والجمهور لا يعلم، وفيروز لم يكن بيدها إلا صوتها.

فهل تُلغي العرض؟

هل تواجه الناس بالحقيقة؟

هل تصعد وحدها؟

فيروز صعدت. لكنها كانت بحاجة إلى صوتٍ آخر يتكلّم عنها، إلى أغنيةٍ تقول: “أنا موجوعة”، دون أن تنكسر، دون أن تدمع عينا أرزة لبنان.

كتب منصور الكلمات، وجلس زياد – ابن السابعة عشر – على البيانو.

ولأول مرة… لحّن لأمه.

ذلك اللحن لم يكن مجرّد موسيقى.

كان حنان ابن يُربّت على كتف أمه ويقول لها:

“غنِّي… أنا معك.” كل شيء سيكون على ما يرام.

وغنّت فيروز:

“سألوني الناس عنك يا حبيبي…”

“بيعزّ عليي غني يا حبيبي، ولأول مرة… ما منكون سوا.”

ربما لم يعرف الجمهور القصة، لكنهم شعروا أن شيئًا تغيّر — أن هذا الصوت، الذي اعتاد أن يرفعهم، أصبح محمولًا بالدمع. ودمعت عيناها وهي تغنيها.

يا زياد، كنتَ تفضّل أن تبقى خلف الكواليس، لا لأنك خجول، بل لأنك لم ترغب يومًا في أن تكون في الواجهة — كنتَ المؤلف، والمايسترو، واللحن، والكلمة.

كنتُ أغنّي، وكنتَ تراقبني.

كنتُ أتكلم، وكنتَ تنصت إلى أنفاسي قبل أن تسمع كلماتي.

وعندما لحّنتَ لي “سألوني الناس”، كنتَ، في الحقيقة، تضمّ قلبي بين يديك.

أما اليوم…

فأنا التي ينبغي أن تقول.

أنا من ينبغي أن تغنّي هذه المرّة بصوتٍ خافت:

“بيعزّ عليّ أن أغنّي، يا حبيبي، ولأول مرة… لا نكون معًا.”

ليس لأنك لست معي على خشبة المسرح، بل لأنك…

لم تعد حولي.

لقد رحلت.

ولم أعد قادرة على العثور عليك، لكنّك، رغم الغياب، مقيم في قلبي.

أنا التي علّمت الناس أن يشتاقوا من خلال صوتي، أما اليوم، فأنا التي تشتاق… ولم يعد فيّ ما يُغنّى.

الرحباني، الذي لم يكن مجرد موسيقي، بل ضميرًا فنيًا ناطقًا باسم الإنسان، وجسرًا بين الألم والوعي، بين السخرية والصدق.

نودّع العبقري الذي كان صوتًا للضمير والموسيقى،

الذي لم يسعَ إلى القوالب، ولا إلى الضوء، بل كان النبرة التي تخرج من الهامش وتعيد تعريف المركز.

أحبّ البسطاء كما هم، وكتب لهم كما لم يكتب أحد.

نتقدّم بأحرّ التعازي إلى السيدة فيروز، وإلى عائلة الرحباني الكريمة، وإلى كل من رأى في زياد مرآة لصوته الداخلي.

وبعد الغياب… تبقى الأغاني

وحدهُم الفنانون الذين يشكّلوننا… يبقَون.

ورنّة موسيقاك، يا زياد، ستظلّ حيّة، ولن أسألك: “كيفك إنت؟”

لأننا أحببناك “بلا ولا شي”… ومع كلّ الأسباب.

العباقرة لا تتّسع لهم الدنيا.

شكرًا على كلّ فنٍ سبقَ زمانه.

بلا ولا شي… منحبك.