كاتب سعودي
دعوني في بداية هذه المقالة أروي لكم هذه الواقعة الطريفة التي حدثت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، حيث تم استدعاء رئيس تحرير إحدى الصحف المحلية “مات قبل فترة قريبة – يرحمه الله – إلى “المباحث” للتحقيق معه وبقي محجوزاً طوال الليل في غرفة ضيقة، وبقي ساهراً حتى انبلاج الصبح ومعه تم إخراجه من هذه الغرفة لمقابلة مدير المباحث ومن فوره بادر رئيس التحرير صارخاً في وجه مدير المباحث يلومه على سوء المعاملة وقلة التقدير على النحو التالي:
رئيس التحرير: “دحين رئيس تحرير بطوله وعرضه وشحمه ولحمه وتقوم تحجزه في هادا المكان الضيق!! فين الاحترام.. وفين التقدير.. وفين …؟”
لكن مدير المباحث قاطعه بتريقة وسخرية مريرة: “سامحنا يا أستاذ. والله معاك حق واحنا آسفين جداً على اللي حصل بس والله ما فيه مكان تاني، كل السويتات محجوزة!”
تذكرت هذه الحكاية في هذه الأيام وأنا أقرأ كلاماً إيجابياً لأحد الكتاب ممن كان في فترة شبابه مصاباً بهاجس المطاردة والظن اليقيني بأنه مستهدف من المباحث لا لشيء حقيقي، وإنما لأن كثيرا من المثقفين في ذلك الحين يتزينون بالسير عكس التيار ويتبنون المغايرة حتى ولو كانت تخالف قناعاتهم الداخلية، وفي ظنهم أن الخروج عن النسق العام الذي يرتع فيه الأكثرية يجعلك تدخل قائمة النخبة أو الأنتلجستيا ويزيد من ذلك أن تيار اليسار في فترة السبعينيات كان يعد الأنموذج الثقافي الذي يمثل خروجاً عن التقليدية وانحيازاً للحداثة، كما أن تلك الفترة قد شهدت صعوداً ملحوظاً للمد القومي والناصري، وكان معظم العالم العربي قد بدأ يتحرر من قبضة الاستعمار بما أوحى للشباب العربي في ذلك الحين أن هذا الانعتاق سيضع البلاد العربية على منصة الانطلاق إلى فضاء التقدم والازدهار، وهكذا فقد لعبت “خمرة” الشعارات القومية والتقدمية بعقول الشباب العربي، وهم الذين كانوا نزاعين للانخراط سريعاً في موجة القومية التي صارت لها قاعدة من المريدين على نحو أغرى جمال عبدالناصر بإعلامه المكتسح ليدعو إلى الثورة على النظم الملكية أو الرجعية كما يسميها، وتبعاً لذلك كان من الطبيعي أن تتسع عين الرقيب في كل بلد وحكم مستهدف تجاه من قد تكون راقت لهم هذه الأفكار، وهم من بعض الشباب الذين وقعوا فريسة لوهم الوعود البراقة والأحلام التي كان يصوغها الإعلام الموجه وكانت كما ثبت لاحقاً من “كلام الليل الذي يمحوه النهار”.
وهكذا سيطر في فترة الستينات ومنتصف السبعينات هاجس “المباحث” وراجت في ذلك الحين عبارة أن “الجدران لها آذان”، تعبيراً عن أخذ الحيطة والحذر كما شاعت كلمة “الدبوس” وكانت تطلق على الرجل الذي يشتبه في أنه عين للدولة وكان الناس يتوجسون من وجوده في مجالسهم، وصفة الدبوس كانت تطلق بشكل عشوائي من بعض الناس على كل من كان يتحدث بصراحة أو من يتجرأ و ينتقد البيروقراطية الحكومية أو ضعف الخدمات الصحية ومن يتحدث بأريحية عن التقدم الذي تعيشه بعض البلدان الأجنبية، هؤلاء كانوا يتحدثون بإخلاص وحماس يدفعهم إلى ذلك حب الوطن والرغبة في تطور هذه البلاد وأن تلحق بركب الأمم المتقدمة لكن كانوا في ذلك الحين يقابلون أثناء حديثهم في المجالس بشيء من التوجس والهمهمة وهز الرؤوس ورفع الحواجب مع صمت مطبق وامتناع عن التعليق وما إن يغادر المجلس مثل هذا المتحدث حتى يهب البعض ويقرر أن كل حديثه محاولة لجرجرة الآخرين واستكناه ما في نفوسهم.
وهكذا ساد الحذر في تلك الفترة لدى قطاع عريض من الناس فيما تلبست حالة البطولة والتضحية بعض المثقفين فصار بعضهم يدعي مفتخراً أنه قد سجن وهو ربما تم التحقيق معه حول مقالة أو قصيدة في يوم أو ليلة لكن هذه الليلة كانت تمتد عند بعضهم حتى لتصبح شهراً أو تزيد.
كنا ذات مرة أنا والزميلان عبدالله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، نخرج من إحدى المناسبات ومعنا زميل رابع “لا داعي لذكر اسمه” نقف على قارعة الطريق بانتظار سيارة أجرة تقلنا إلى مكتبنا في مجلة اليمامة لكننا كلما أوقفنا سيارة أجرة يقوم زميلنا الرابع بإدخال رأسه من نافذة السيارة ثم يرفض الركوب ويلتفت إلينا ويهمس لا تركبون معه ترى هذا السائق مباحث!
وهكذا يمر التاكسي الأول ويعبر.. والثاني يغادر.. والثالث يرحل وقد نركب مع الرابع أو الخامس بحسب درجة تخرصات ووساوس زميلنا الروائي، الذي كان يحيط نفسه بهذه الهالة الوهمية الكاذبة، وكان يتكسب من ورائها قيمة واحتراماً بحجة نضاله الإبداعي الذي فتح عليه – كما يزعم – أبواب الملاحقة وأعلم كما كان يعلم الكثيرون في الوسط الثقافي أن حالة التلبس هذه كانت تهيمن على قلة من المثقفين الذين لم تكن لديهم لياقة وظيفية تجعلهم ينشغلون بعملهم عن هذه الوساوس وكانت البطالة التي يعيشونها تضغط عليهم اقتصادياً ونفسياً بما ينعكس أثرها على سلوكياتهم على نحو يجعل هاجس المطاردة وفزاعة المباحث تكسبهم شيئاً من القيمة الاجتماعية وبعض الرضا النفسي.
يكبر الإنسان ويرشد عقله وتخمد عواطفه النفسية المضطربة التي تنقاد سريعاً في عمر الشباب إلى الاعتراض والرفض والمغايرة لكن الزمن وتجاربه كفيلة – غالباً – بترويض هذه النفوس.
تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ لزميلنا الذي كان يخشى ركوب التاكسي قبل أيام كلاماً عقلانياً يعبر عن النضج والرشد.
المصدر: الوطن أون لاين