محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
مع وصول القوات الدولية والعراقية إلى قلب الموصل، تكون بداية النهاية العسكرية قد أزفت لتنظيم داعش المسلح في ذلك المكان، ولن يكون الوقت طويلاً قبل أن يُدحر أيضاً من جانب القوات الدولية وحلفائها في الرقة على الأرض السورية… بقية التنظيم المسلح سوف تتناثر. ولكن السؤال المهم: هل انتهت الحرب بعد ربح المعركة العسكرية؟ حتى نجيب عن هذا السؤال نطالع مع القارئ الكريم هذا النص الذي يقول: «إن أولى الخطوات في طريقنا، هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نُعدل نحن في قيمنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي معه في منتصف الطريق، كلا… إننا وإياه على مفترق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق…».
لو قلت للقارئ إن هذا النص من النصوص التي تركها أبو بكر البغدادي (إبراهيم عواد إبراهيم علي) لمن يأتي من بعده، لما دخل الشك في ذهن المتابع، إلا أن المفارقة أن هذا النص ليس للبغدادي، وإن كان يُعبر حق التعبير عن مجمل الأفعال التي اتبعها «داعش» بقيادته، أو «القاعدة» تحت قيادة الزرقاوي، أو غيره من قادة ما يزعمون أنه جهاد، من العراق شرقاً حتى ليبيا غرباً، ومن أفغانستان إلى اليمن، والتي تركز على إطراء الاستعلاء على «المجتمع الجاهلي، وعدم مسايرته، بل مفارقته كلياً وحربه أيضاً». إلا إنني اقتبست تلك الأسطر من كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، الذي كانت كتاباته، وربما لا تزال، «إنجيل» الفرق المتشددة، والمفارقة للعالم الحديث، بألوانه واجتهاداته المختلفة.
قد يرى البعض أن تلك الفقرة قد نزعت من سياقها، ولكن الحقيقة التي قد تكون مُرّة، أنها مُرددة في معظم ثنايا ذلك الكتاب وغيره من الكتب المشابهة، التي كانت متاحة في مدارسنا، ومعظم المكتبات حتى وقت قريب؛ بل إن بعضها طبع أكثر من طبعة تعدت العشرات، دليلاً على إقبال أشخاص ومجموعات على قراءة تلك الكتب والأخذ بتصوراتها، بل إن تلك الكتب شكلت القاعدة الفكرية لفهم قيادات سياسية إيرانية، أخذت بمنهجها. الأكثر تحييراً أن مثل هذه الكتب، خصوصاً «معالم في الطريق»، متاحة اليوم على الشبكة الدولية للإنترنت.
وقد يصاب الباحث بدهشة عندما يطلع على بعض نصوص ذلك الكتاب متضمنة في بعض المناهج التي تدرس اليوم. لست من المدرسة التي تقول إن «الكتاب»؛ أي كتاب، يكون له التأثير الكبير في مسيرة المجتمع، ولست مع الرأي بمنع الكتب، ولكن هناك عاملين يجب الانتباه لهما؛ الأول أن لدينا من الخبرة التاريخية ما يجعلنا نعلم بأن ما يكتب «في ظروف سياسية معينة» يجد له على أرض الواقع تمكيناً، وبسبب تلك الظروف هناك مؤمنون، يحولون النص إلى فعل؛ بعضه فعل شنيع كقتل الناس دون ذنب قتلاً عشوائياً. والثاني أن ليس هناك مناعة فكرية أو علمية تقف حاجزاً أمام تشرب تلك الأفكار من البعض، التي هي أفكار وهمية مفارقة للواقع، وليست لها علاقة بهذا العالم الذي نعيشه، ولكنها تقدم للمتلقي الشاب على أنها حقيقة مطلقة، يجب صَمّ أذنيه عن غيرها.
ما الذي يجعل من النصوص إذن أداة أو أدوات للعبث في المجتمع؟ هناك عدد من العناصر إن اجتمعت، أو اجتمع أكثرها، هيأت البيئة الإنسانية لتقبل ذلك التحول عن السلوك السوي؛ سواء كان تحولاً إلى الأفضل أو الأسوأ. أمامنا عدد كبير من شواهد التاريخ؛ كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، الذي احتضنته بعض النخب في أوروبا، واعتقد كثيرون أنهم وجدوا به إنجيلاً جديداً. كانت الأوضاع المزرية بعد الثورة الصناعية تفعل فعلها في المجتمعات الغربية، تمزقها وتحط من إنسانية الإنسان فيها، ولم يكن باستطاعة أهل السياسة وقتها الخروج بشكل معقول من أزمة رأسمالية مغرقة في عدم العدالة، فجاء السيد ماركس للإشارة إلى طريق، يبدو على الورق أنه مقنع. بعد فترة ليست بقصيرة من معاناة شعوب كثيرة سارت على ذاك الطريق، تبين أن ما جاء به كارل ماركس ورفاقه وهْمٌ كبير ومخالف ببساطة للطبيعة البشرية. أفاقت تلك الشعوب، ولكن بعد تضحيات كانت هي حطب نارها، وقتلى بملايين البشر.
في مكان آخر، جاء أدولف هتلر، الذي قاسى ظروفاً صعبة في بداية حياته، بكتاب «كفاحي»، الذي يتضمن فكرة النقاء العرقي للشعوب الجرمانية، وبالتالي حقها في حكم العالم، وانتشرت الفكرة بين صفوف الشعب الألماني جراء الخوف من الهجرة والخسارة في الحرب العالمية الأولى، وبقية القصة معروفة؛ ملايين من البشر فقدوا أرواحهم، ومئات من المدن سويت بالأرض، وتبين بعد كل ذلك أن النقاء العرقي خرافة فضحها العلم، فليس هناك شعب عرقه أفضل من شعوب أخرى، أو يتمتع بنقاوة ما يحق له بسببها حكم العالم!
أفكار التشدد والتطرف المشيعة للأوهام، سوف تبقى في محيطنا إن لم يفتح الباب لنقاش جدي وحيوي حول وهمية تلك الأفكار، ويصل إلى إجابات واضحة المعالم، ويفسر لنا كيف وقع ويقع عدد من شبابنا في مصيدة الأفكار المتطرفة، التي تقود في النهاية بعضهم إلى القيام بأعمال متطرفة يشوبها العنف الفظ والإجرام الصريح.
حتى تتضح الصورة؛ الأفكار التي أتي بها سيد قطب وآخرون انتموا إلى مدرسته بدرجات، وهي «المفارقة» للمجتمع، جاءت تحت ظروف مجتمعية وسياسية بالغة التعقيد، في مرحلة تحول كبير في الفضاء العربي؛ من الانفكاك من المستعمر إلى البحث عن بناء الدولة الحديثة. البعض اعتقد أن بناء الدولة، في رؤيتهم، شرطه الأساسي «مفارقة المجتمع الكافر» و«المفاصلة» والتوجه إلى «الدولة الإسلامية»! وكان واضحاً أن تلك الأفكار بجانب أنها خطاب إطلاقي معمم، مغرقة في المثالية النظرية، ولم يكن مطلقوها على دراية جدية بتطور المجتمع المسلم خلال تاريخه الطويل، أو على فهم لتطور العالم. كان خطاباً نكوصياً معتمداً على شيطنة الآخر بالمطلق، و«ملائكية الأنا» بالمطلق، وأن الحضارة الغربية بعموميتها وتفاصيلها شر مطلق! وبسبب عمومية النص وإطلاقه، وجد من يعتقد به، لأنه كان سهلاً؛ «أسود وأبيض» لا غير، متجاوزاً الحقيقة الحياتية أن الحياة والتاريخ «قوس قزح؛ به كثير من الألوان».
قبول تلك النصوص على عِلاتها ساعدت عليه مجموعة متداخلة من العناصر؛ واقع سياسي واجتماعي مأزوم، وضعف أو عدم وجود حلول عقلية وعقلانية للمشكلات التي تواجهها المجتمعات، وضعف في التكوين والتفكير لدى النخب، وأخيراً سهولة تسييس ذلك الخطاب من أجل حشد جماهيري أوسع. إلا أن القضية لا تنتهي هنا، فلو قبلنا القول بأن معظم المسلمين «فاقدو أهلية التفكير الصحيح»، لأصبحنا جميعاً «داعشيين»، أو «قاعديين» أو «زرقاويين» أو «طالبانيين» أو حتى «حوثيين»! أو غيرها من الجماعات العُنفية. كان القطاع الأكبر من المسلمين يعرفون ماذا يعني «العالم الحقيقي» الذي يعيشون فيه… يعرفون ما أضافته الحضارة الغربية من إنجازات ومن نظم، كما يعلمون التاريخ الحقيقي لأمتهم الإسلامية في عصور الانفتاح والتقدم، ويعرفون الفرق بين النضال من أجل حياة أفضل وأي الوسائل يمكن أن تستخدم في ذلك النضال، وبين العنف المفضي إلى تهشيم المجتمع. إلا أن ذلك الفهم لم يصبح علانية وله صوت يُرفع، لأن الجميع تم «إرهابهم» ثقافياً، فإن لم تكن، مثلاً، «إخوانياً» أو «جهادياً»، فإنك غير مسلم؛ والعياذ بالله، فتم تحت ذلك الإرهاب الفكري تكميم الأفواه وكسر الأقلام، كما تم بالضبط في الحالات القومية المتطرفة الأخرى، فلم يكن المواطن الألماني، مثلاً، بقادر تحت «الرايخ الثالث» على أن يقول رأيه، وهو، للمفارقة مرة أخرى، إحياء «العظمة الألمانية»، أو المواطن «السوفياتي» تحت الحكم المطلق على أن يبدي رأياً.
في الحالة العربية ربط الإسلام العظيم بمجموعة فتاوى ومشايخ وكتّاب، معظمهم خارج العصر! وقد آن الأوان للأغلبية المسلمة أن يرتفع صوتها بأدوات جديدة، معتمدة على العقل، وذلك جهد ليس مطلوباً فقط؛ بل أصبح ملحّاً، لأن المخاطرة التي نحن أمامها هي أن تكون هناك هزيمة عسكرية «للتنظيمات المتطرفة» وانتصار «لأفكارها»!
آخر الكلام:
ساحة المعركة الحقيقية هي كشف الأوهام، التي أصبحت صناعة لها تجارها الكثر، ومنهم جيش الإرهاب!
المصدر: الشرق الأوسط