كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
إذا تأملت في الحج فستجد أنه لا يعني فقط مسح الذنوب من سجل الإنسان عند الله الرحمن الرحيم، بل هو أيضا بداية جديدة للضمير الذي يعاني من الأخطاء، ويريد أن يتخلص منها دفعة واحدة. هذه البداية الجديدة تعني الكثير للإنسان الضعيف بطبعه والذي يرهقه الندم. الديانة المسيحية بذلت جهدا كبيرا في هذا الاتجاه، فهي لم تؤكد فقط على عقيدة الخلاص والتي تطهر الإنسان عبر الإيمان القلبي بل أيضا تمنحه الكثير من الغفران من خلال جلسات الاعتراف.
ولكن ماذا عن جروح الروح؟ عن تلك الندبات التي تتراكم على قلوبنا مع الأيام؟ ماذا عن أخطائنا التي تلاحقنا في أعماقنا؟ عن تلك اللحظات التي نقف فيها مصدومين من أنفسنا، وربما مصدومين من الأيام التي حرمتنا وعاقبتنا ونحن لا نستحق ذلك؟
الإنسان يتمتع بقدرة هائلة على النسيان. هذا ما يفعله الإنسان عادة، يحاول أن ينسى حتى يتمكن من النوم والمضي في حياته. وكثير من الأمور الإيجابية التي نقوم بها هي جزء من عملية النسيان هذه. جمال الحياة أن تجدد ذكرياتك، أن تنطلق مع البدايات الجديدة، أن يجري نهر عذب في حياتك لا يتوقف، بحيث يكون في كل يوم من حياتك ماء جديد.
التكنولوجيا عادة تمضي في الاتجاه المعاكس. هي تحاول الاستفادة من إمكاناتها في الحفظ والتسجيل والأرشفة لدفعك لتسجيل ذكرياتك وتخزينها وتصنيفها واسترجاعها ومشاركتها مع الآخرين. هي بذلك تمضي عكس الطبيعة، كما يقول نيكولاس كار الكاتب الأميركي الشهير في مجال “فلسفة التكنولوجيا” والذي كتب مقالا رائعا حول الذاكرة القابلة للمسح والتبديل (Disposable experience).
حسب ما يقول كار في مقاله، أولئك الذين يستخدمون انستجرام وفيسبوك وغيره لتسجيل الذكريات، لا يفعلون ذلك لأنهم يريدون أن يعودوا إليها في المستقبل، فهذا حرمان للنفس من حصانتها الذاتية نحو اللحظات السيئة، ولكنهم يفعلون ذلك لمتعة التسجيل والمشاركة فقط.. قد تعترض وتقول إن الذكريات فيها الجميل الشيق أيضا. الذكريات هي أحيانا الصندوق الذي نختزن فيه لحظاتنا الجميلة، تلك اللقطات العظيمة التي أمتعتنا يوما، تلك الأصوات الجميلة لمن نحب، ونحن نتخيلهم يتحدثون إلينا كل يوم. الذاكرة هي أحيانا ملجأنا عندما يأتي الظلام ونبحث عن إشعاعات السعادة في ماضينا.
بقدر ما تمنحنا الذكريات كل ذلك، فإن التكنولوجيا في الحقيقة لا تساعدنا على ذلك على الإطلاق، لأن هذا الأثر المشرق للذكريات يأتي من أعماقنا، من إحساسنا بتلك اللحظات العظيمة، ولا علاقة له بمشاهدة صورة أو فيديو.
في الحقيقة هناك ظاهرة سلبية تسمى بـ”فقد الذاكرة الرقمي” (Digital Dementia) ، حيث لوحظ لدى الأجيال الجديدة المدمنة على استخدام التكنولوجيا ضعف هائل في الذاكرة، وحتى تلك الذاكرة التي لها علاقة بالتفاصيل اليومية، وذلك لأن الاعتمادية الذهنية العالية على التكنولوجيا في تسجيل كل التفاصيل والمعلومات والبحث عنها متى ما أردناها أدت لضمور تلك القدرات الذهنية لدى الجيل الجديد. في كوريا الجنوبية حيث استخدم هذا المصطلح، وهي الدولة التي تعتبر من الأكثر استخداما للتكنولوجيا تتم دراسة هذه الظاهرة بشكل سنوي وبعناية فائقة، لأن هناك شعورا لدى الأكاديميين بالخطر السلبي لهذه الظاهرة على نمو الجزء الأيمن من الدماغ لدى الأجيال الجديدة.
هذه الظاهرة ستلقى عناية أكبر من الآباء والمعلمين في السنوات القادمة، لأن الأدلة عليها تتراكم بشكل سريع. في العام الماضي، ألف البروفيسور الألماني عالم الدماغ مانفرد سبيتزر كتابا بعنوان “فقد الذاكرة الرقمي”، وحشد فيه من الأدلة ما يرعب حول الأثر السلبي للتكنولوجيا على قدرات الجيل الجديد.
التكنولوجيا أيضا ساهمت في تسجيل لحظات الألم والحزن لدى الآخرين. إنها تتقن مهاجمتنا في بيوتنا وفي لحظات سكوننا كل دقيقة لتمنحنا بعض الألم. لا يمكنك مثلا أن تقضي وقتا وأنت قريب من التكنولوجيا دون أن ترى مأساة اللاجئين السوريين وسط الصقيع لتشعر بالعار. هذا مجرد مثال لكثير من المآسي والأحزان التي تلتقطها لنا الشبكات الاجتماعية وتتقن من خلالها أن تجعل حياتنا حافلة بالغضب أو مغلفة بالتبلد الكامل حتى نستطيع الاستمرار.
التكنولوجيا هي عدو طبيعتنا البشرية البسيطة.. نريد أن ننسى الجروح ونتذكر الجميل.. نريد أن نعشق ثم نسهو، ونريد أن نخطئ ثم نمضي، ونريد أن نتعاطف ثم نعود لأنانيتنا التي تحمينا من الاكتئاب.
بقدر ما تمنحنا التكنولوجيا الكثير، هي تحرمنا من الكثير، والإنسان في النهاية يحتاج تلك القدرة على مد شعرة معاوية مع التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية من حوله.. يقترب فلا يغلو في حميمية الاقتراب، ويبتعد فلا يفرط في الهجران.
المصدر: الوطن أون لاين