«برد الخلاقين».. من «المعاناة والمشقة» إلى «البحث عن الماركات»

منوعات

771558885927

إعداد: حمود الضويحي

هبّت رياح باردة مساء ليلة، معلنةً عن قدوم برد الشتاء القارس، ما جعل الناس يهبون سراعاً لإخراج ملابس الشتاء الثقيلة التي ارتاحوا من لبسها عدة أشهر، فبعض منهم يحب هذا الموسم وبعض آخر يعلن تذمره، خصوصاً من الرعيل الأول الذي يجد المشقة من قدوم هذا الضيف الذي يدخل برده في العظم، وربما في النخاع، وذلك لقلة استعدادهم له لضيق ذات اليد.

على عكس جيلنا الحاضر الذي يستقبل الشتاء بفرحة غامرة، فموسمه يعد لهم تغييراً في نمط الحياة، حيث الاستعدادات متوافرة من اللباس إلى الطعام إلى المنازل المهيأة؛ لأن تعيش داخلها وأنت تنعم بالأجواء الجميلة من خلال استخدام أجهزة التدفئة الحديثة من مكيفات ودفايات وسخانات و»شبّة» النار بأجود أنواع الحطب من «الغضا» و»السمر»، إضافة إلى توافر الطعام الذي يمد الجسم بالطاقة والحيوية من التمر والخبز وسائر الأطعمة الدسمة، إلى جانب اختيار أنواع الملابس الحديثة و»الماركات».

وعند هبوب رياح الشمال واشتداد البرد لم يكن الناس فيما مضى يتساءلون ماذا نلبس، فاللباس واحد ومحدد، فليس هناك «دولاب» ملابس إذا فتحته على مصراعيه تلقتك باختلاف ماركاتها وألوانها، بل كانت الملابس على قلتها تحفظ قديماً في «مصر»، وهو كيس من القماش أو قطعة مربعة توضع فيها الملابس ثم تربط مع أطرافها، والموسرين من الناس يكون لديهم «شنطة» من الحديد أو صندوق متهالك من الخشب تدرج فيه ملابس الشتاء التي مل الناس من ارتدائها كما ملت هي الأخرى من ملامسة أجسادهم، فصارت أسمالاً بالية من كثرة الاستخدام، فيلبسونها وتبين فيها تكسرات القماش، فما كان أحد يعرف «كوي» الملابس، بل كان الاستعمال كفيلاً بكويها، وعندما يلبس أحدهم ملابس الشتاء تجد الفرحة تغمره حين يشعر بالدفء.

كان تمازج الألوان شيء مضحك، حيث الموضة معدومة، فلا غرابة أن تجد من يلبس ثوباً أخضر وعليه «كوت» أحمر وعمامة بيضاء تميل إلى اللون البني من كثرة الغسل والاتساخ، والجوارب – الشرّاب – بلون أزرق إن لم يكن كل زوج منها بلون في كل رجل، كأن تكون الرجل اليمنى بلون أزرق واليسرى بلون أخضر وهكذا، ولم يكن الناس ينتقدون بعضهم في ذلك بل ترى كثيرا منهم يغبط من يجد لباساً يدفيه، فكثير منهم تجده يخرج بلا «شرّاب» أو «معطف»، بينما كثيرون يلبسون ثياباً خفيفة، فترتعد فرائصه لا من الخوف، بل من شدة البرد القارس.

عال العال

وقد يستغرب أحدنا أن تلجأ والدته إلى كسو جسده بأي شيء تجده من أجل أن تقيه «زمهرير» البرد القارس، وذلك في عصر الفاقة والجوع، فحين تبحث في المنزل لا تجد شيئاً يكاد يستره من شدة الفاقة، فتعمد إلى الاستعانة بما يتوفر لديها من قماش، ويروي أحد كبار السن أن والدته كانت تستخدم قديماً أكياس الدقيق، التي كانت ترد من الولايات المتحدة الأمريكية، وفيه دعاية مكتوبة بخط عريض بعبارة: «دقيق مرمرة عال العال»، أي ذي جودة عالية، وقد كانت والدته تحتفظ بالأكياس القديمة من أجل خياطة ملابس له، خصوصاً الداخلية منها، فكانت تخيط «الفانلة» و»السروال» ويمتاز هذا القماش بسماكته وخشونته أيضاً، وعندما يذهب إلى المدرسة يلبس التي حاكتها والدته وكأنها من ماركة «عال العال»، وعند اللهو مع أقرانه في المدرسة ويرفع ثوبه أثناء الركض تخرج هذه العبارة على قفاه وهو يركض «عال العال»، ما يجعل كثيرين يضحك منه غير مبالين لمشاعره وفقره.

هذه القصة الحقيقية تثبت مدى المعاناة والفقر اللذين عاشهما جيل الأجداد في مواجهة برد الشتاء، حيث تجبره الفاقة إلى الاستعانة بلبس أي شيء يجلب الدفء، كما كان الصغير إذا كبر وقصر عليه ثوبه فإنه يحتفظ به من أجل أن يلبسه أخوه من بعده، وقد يلبس الثوب الواحد ثلاثة إخوة لسنوات طويلة، ولا يتخلص منه إلاّ بعد أن يكون قد تهالك وكثرت رقعه، ومن شدة حرصهم على أن يبقى الثوب طويلاً يعمدون إلى أن يطيلون كم الثوب عند خياطته بمقدار ارتفاع أربعة أصابع، فتثنى الزيادة وتخاط فتكون كسره وتسمى تلك الزيادة «رفاعة»، كما يطيلون الثوب إلى أن يسحب في الأرض ويجعلون له «رفاعة» في الوسط، فيكون طول الثوب إلى الكعبين، وعندما يكبر الصغير ويطول على الثوب يتم فتحها، فيزيد طول الثوب وكذلك طول أكمامه، ويستلزم تمازج ألوان الأثواب وتوحدها أياماً طويلة من اللبس المتواصل ليل نهار، حيث من الناس من ينام بثوبه، فلم يكن هناك ملابس للنوم تعرف.

متلبد بالملابس

قد نسمع بمقولة «متلبد»، وقد يتبادر إلى أذهاننا قول مذيع النشرة الجوية بأن الجو متلبد بالغيوم، ولكن متلبد قديماً كانت تطلق على من كان يلبس ملابس كثيرة على جسده اتقاء لهجمة البرد الشرسة، فقد كانت الأمهات يخفن على أطفالهن من البرد فتراها تلبسه ملابس داخلية دافئة، ومن ثم ثوبا صوفيا خشنا وفوقه «كوت»، أما رأسه فتلبسه طاقية ثم قبع صوفي ومن فوقه العمامة التي تلف بأحكام حول عنقه وتربط من الخلف، بحيث لا يتمكن من فتحها إلاّ إذا رجع إلى المنزل فتتولى هي فتحها بنفسها لضمان عدم فتحها من قبل طفلها أثناء خروجه من البيت.

وقد كان ذلك «ديدن» الأمهات مع أطفالهن عند إلباسهم للخروج إلى المدرسة، خصوصاً التي سيقضي فيها أكثر من ست ساعات، وكم يكون شكل الطفل مضحكاً إذا خرج بهذا اللباس الذي كأنه لباس رائد فضاء في عصرنا الحاضر، فحركته صعبة ومثقلة وكأنه «فقمة» تخطو على الجليد، ولكن بعض الأطفال يكون حظه سعيداً إذا كان له أخ يكبره في السن يدرس معه في نفس المدرسة، حيث يستعين به في فك الشماغ في منتصف اليوم الدراسي وقت الفسحة، فتراه يذهب إليه متوسلاً أن يفتح له ربطة عنقه التي تكاد تخنقه، فيستريح عند فتحها ويستنشق روح الحياة ويحس بشيء من الحرية والانطلاق.

ومن أصعب المواقف التي كان يعانيها جيل الأمس من الصغار هو اعتدال الجو وقلة البرودة، حيث يعيش في مأساة فيمشي وهو يشعر بحرارة الملابس، ويمضي يومه وكأنه في حمام «ساونا» من شدة التعرق والحر الذي ينغص عليه يومه.

جيل الأجداد واجه مشقة البرد والشتاء بارتداء الفروة

بيدي وفروة

ومن أشهر ملابس الشتاء قديماً التي اختفت وانقرضت هي «البيدي»، وهو عباءة منسوجة من وبر الجمال تشبه «البشت»، ولكنها أثقل منه بمرات كثيرة، فمن يلبسه يحتاج إلى أن يكون قوي البنية لكي يستطيع بدنه احتماله، ولكنه مع ذلك من أجود الملابس الشتوية التي عرفها الناس، فعند لبسه والالتحاف به يشعر المرء بحرارة الدفء ولو بات في عراء الشبط، فلن يحس بالبرد، حيث يضرب به المثل قديماً في قوة عزله، فيقال عن أحد الناس الذي لا يكاد أن يعرف أو يسمع عنه شيء لغموضه: «كأنه يأكل موز في بيدي»، وهو مثل يضرب للمبالغة فالموز لا تكاد تسمع صوتاً لآكله، فكيف إذا أكله وهو متلحف ومتغطي ب»بيدي»، ولكنه يعاب عليه أنه ثقيل كما أسلفنا، إضافة إلى خشونته العالية، حيث إنه لو مر على الوجه أو الأطراف لأثر فيها من شدة خشونته.

ومن ملابس الشتاء القديمة «الفروة»، التي كانت تصنع من جلود الماعز والضأن وتسمى ب «الطفيلية»، وهي ك «البيدي» من حيث جلب الدفء، لكنها تختلف عنه بملمسها الناعم وبوزنها الخفيف، وهي أغلى منه وأجود، لكنها لم تكن تتوفر إلاّ للموسرين بعكس «البيدي» الذي يمتلكه معظم الناس، ثم تأتي أنواع اللباس الأخرى مثل «الجبة» من الصوف وهي تشبه «الكوت» أي «الجاكيت»، إلاّ أنها أطول منه، و»الدقلة» و»الصديرية»، ومن ثم «بشت الوبر» وهو الأكثر انتشاراً، خصوصاً مع كبار السن الذين لا يفارق أجسادهم طوال أيام الشتاء.

ومن الملابس التي تجلب الدفء للقدمين «الزرابيل»، وهي نوع من «الكنادر»، وهي مصنوعة من الجلد يغطي القدمين إلى الكعبين، ومن ثم يوصل بهما قماش من الصوف يكون إلى منتصف الساق، ولم يكن الناس يعرفون فيما مضى «الشرّاب»، فتعمل هذه «الزرابيل» مقامها، وقد كان أهم شيء يجلب الدف هو لبسها فقد قيل: «إذا دفئت القدمان دفئ الجسم كله»، وإن كانت القدمان من دون «زرابيل» لم يستفد الشخص ما يلبس من الثياب الشتوية وإن لبس كل ما لديه، ومن وصايا الأطباء قديماً قولهم: «إذا أردت الصحة فأدفئ قدميك واكشف رأسك»، أمّا الرأس والأذنين فقد كان «القبع» كفيلاً بتدفئتهما هو والعمامة و»الشال».

منازل دافئة

وكانت المنازل قديماً مبنية من المواد الخام المتوافرة من الطبيعة، وقد برع جيل الأجداد في بناء منازلهم، وذلك بتكييفها مع فصول العام، ولعل من أشد الفصول قساوة هو فصل الشتاء ببرده اللاسع وأمطاره الغزيرة، لذا كانت البيوت تبنى من الطين وتسقف بأخشاب الأثل وجريد النخل، ما يجعل جدرانها عازلة للبرودة الشديدة في الشتاء، حيث تصمم عدد من الغرف من دون نوافذ، وذلك من أجل الحد من دخول الهواء البارد، لاسيما في فصلي «المربعانية» و»شباط»، وتسمى تلك الغرفة ب «الصفّة» التي تكون مكاناً للنوم، ولأهمية إشعال النار لجلب الدفء التي يطلق عليها «فاكهة الشتاء» كما قال الشاعر:

والنار فاكهة الشتاء فمن يرد

أكل الفواكه شاتياً فليصطل

وقد خصصوا مكاناً لها في مجلس المنزل بمكان يسمى «الوجار»، وهو موقد يبنى من الطين ويغطى بطبقه من «الجص»، وفي أحد أطرافه الملحق للجدار يبنى «الكمار»، وهو عبارة عن أرفف توضع عليها «الدلال» و»الأباريق»، ويبنى بطريقة هندسية بالحفر في مادة «الجص» لزخرفته، وهذه الطريقة منتشرة في منازل المنطقة الوسطى، وهذا «الكمار» عبارة عن رفوف تستخدم كخزانات صغيرة توضع فيها معاميل القهوة من «الدلال» والأباريق وأدوات صنع القهوة ك «المحماس» و»المبرد» و»النجر»، أما سقف المجلس فيكون له فتحات جانبية مربعة أو مثلثة الشكل على الجدران للتهويه، وفي السقف توجد فتحة لخروج الدخان تسمى «الكشاف» تكون فوق موقد النار – الوجار – مباشرة، وهذه الفتحة لها غطاء تفتح وتقفل بواسطة حبل طويل يكون في متناول يد صاحب المجلس.

جلسة جميلة

ومن فنون البناء استغلال الجدار الذي خلف من يجلي في رأس «الوجار» كبيت للحطب، وذلك بجعل فتحة في الجدار خلف معد القهوة يوضع بها الحطب، فمتى ما أراد وضع المزيد من الحطب التفت إلى خلفه وأخرج القدر الذي يريد من بين الحطب، من دون الحاجة إلى إحضاره من مكان بعيد، وعند اشتداد البرد يشعل صاحب المنزل النار في أجود أنواع الحطب وهو «السمر»، وإن كان «الغضا» بحرارة جمرة وطول بقائه أجود منه، لكنه أغلى ويصعب الحصول عليه بسهولة لندرته، ومن ثم يعد القهوة لأهل بيته أو لضيوفه مع «قدوع» التمر، فتنسيه هذه الجلسة الجميلة برد الشتاء، وتضفي على الجلسة دفء الأجسام والمشاعر فتحلوا المسامرات ويعذب الحديث، وكأنه عمل بوصاية من سبق في الاستعداد لبرد الشتاء، كما يروى في الأساطير الشعبية أن المربعانية عندما أرادت الخروج أوصت ولدها الشقي شباط بقولها: «أنا طلعت مريت وما ضريت، عليك باللي أكله دويف، ولا تقرب اللي أكله تمر ووقوده سمر»، حيث تُعد «دويف» أكله قديمة غير دسمة ووقوده ليف لحاء النخل.

720787248340

سوق الحراج

وليس كل الناس قديماً يستطيعون شراء ملابس جديدة لندرتها من جهة وغلاء سعرها من جهة أخرى، لذلك توجهت أنظارهم إلى شرائها من «الحراج»، وهو السوق الذي يباع فيه كل شيء مستعمل من أثاث وملابس وكماليات، الذي كان منتشراً في المدن والبلدات الكبيرة، فمن خلاله يستطيع المرء أن يشتري السلعة بنصف ثمنها، وعند هجمة الشتاء تجد الملابس المستعملة الرواج فيستطيع البسطاء من الناس أن يلبسوا ما يجلب لهم الدفء بأقل الأسعار، ولكن قد تصادف المتسوقين عقبات في الشراء وهي عدم الحصول على المقاسات التي تناسبهم أو الألوان التي ترضي أذواقهم، لكنهم في النهاية يخرجون بما يطلبون ويلبسون ويكشخون بأرخص الأثمان، لكن الذواقة من الناس عندما يقابلون هؤلاء المترددين على «الحراج» يعرفون من شكل الملابس وعدم تناسقها وكثرة استعمالها أن مصدرها منه، حيث فك أزمة كثيرين من الناس وحفظ ماء وجوههم من السؤال والتذلل للآخرين.

مرقوق وقرصان

وكان موسم الشتاء يؤثر فيما مضى وبشكل كبير على محدودي الدخل ممن لا يجدون ما يردون به «زمهرير» البرد، فعلى سبيل المثال كان «الحرفية» وهم أصحاب الحرف مثل البنائين والمزارعين هم أشد الناس ضرراً من البرد، لذا تجد من يستعين بهم يحاول ويحتسب الأجر في أن يخفف عنهم برد الشتاء، فيعمل لهم وجبة دسمة تعينهم على الصبر في عملهم أثناء برودة الجو مثل «المرقوق» و»القرصان» و»العصيدة» و»الجريش» وغيرها، وقد حدث أن أعطى أحد الموسرين كل واحد من هؤلاء الحرفية من البنائين قطعة «ودك»، وهو الشحم المذاب من شحوم الحيوانات من أجل أن يفركوا بها أيديهم مع اشتداد البرد في الصباح الباكر؛ لتلين حتى تمنحهم الدفء، وتعينهم على الشغل الشاق، فابتلع أحدهم تلك القطعة من «الودك» وقال: «إن حلقي أحوج من يدي لهذه الودكة»، وذلك من شدة الجوع والفاقة، فرحمه صاحب العمل وأعد له ولمن معه من الحرفية وجبة دسمة أشبعتهم وأذهبت جوعهم وساعدتهم في مضاعفة الجهد من أجل إتمام مهمتهم.

207610987592

برد ورفاهية

ويعيش جيل اليوم نعمة كبرى بتوافر كل ما تتوق إليه نفسه من طعام وشراب وملبس ومسكن، فبعد أن كان الناس يستثقلون فصل الشتاء لشدة برودته وندرة الملابس التي تقي من برده والطعام الذي يدفئ الجسد، صار الناس يستمتعون بقدومه ويستبشرون، ففيه «شبّة النار» والتلذذ بالاجتماع حولها، وكذلك ارتداء الملابس الصوفية والقطنية الدافئة من مختلف الماركات العالمية، إضافة إلى أكل الطعام الذي يجلب الدفء في كل وقت وحين، والتلحف في غرف النوم في المنازل المهيأة بأحدث أجهزة التدفئة، فشتان ما بين جيل اليوم والأمس، فجيلنا ودع حياة البؤس والتعب، ما يستدعي شكر الله على نعمه، والتحول من حال إلى حال أفضل فبالشكر تدوم النعم.

المصدر: الرياض http://www.alriyadh.com/998764