خاص لـ هات بوست:
تتضافر البنية الفكرية في خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه؛ بوشائج منطقية/عقلانية في عملية بناء الإنسان، كما يجب أن يكون (بالمعنى الفلسفي)، أو بأقرب صورة ممكنة من الكمال العُلوي؛ بالمعنيين الديني والأخلاقي؛ باعتبار أن الإطار العلمي الناظم لمشروعه الثقافي؛ يتكامل بمنهجية مُبسّطة في سياق نسق مفهومي، يجمع عقلانياً وإيمانياً ما بين “كلّي القرآن”، و”كلّي العصر والزمان”، ليس في قراءة النصوص واستنباط فقه الواقع، وملاحظة أو رصد تحوّلات الإنسان واختلاف الأزمنة وتباين الأمكنة فحسب، وإنما أيضاً؛ في عملية بناء إطار فكري، متماسك بنظام لغوي، دلالي/تأويلي، إسلامي/ثقافي جديد، مفتوح على المستقبل؛ من خلال نحت مفاهيم ومقولات جديدة في سياق إمكانية تحرير النصوص من راهنيتها الزمانية والمكانية؛ طالما أن غرضها بالمعنى الإسلامي الصرف، هو تحصيل السعادتين للإنسان في العاجلة والآجلة.
وهي مفاهيم ومقولات جديدة لا تخرج عن سياق مفهوم “كلّي القرآن”؛ بقدر ما تندرج فيه ضمنياً في الخطاب، الذي يعني النظر إلى القرآن الكريم؛ باعتباره رؤية حياة متكاملة للإنسان في كل زمان أو مكان، فهو إطار شامل أو فضاء متكامل؛ بكلّياته وجزئيّاته. ومنها تتشكل خلاصة مقاصد الشريعة، كما حدّدها الرعيل الأول من علماء المسلمين؛ بالضروريات الخمس، “حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمِلك”، فهذه الضروريات التي تحتفي بالإنسان، وليس شيئاً آخر سواه؛ باعتباره قيمة أعلى في الموجودات أو المخلوقات؛ لم ترِد حرفياً في أم الكتاب، غير أن فضاءه العام يحيطها بعناية وإحكام، لا يسمحان بأي تفريط؛ مهما اختلفت الأسباب أو العلل. وهذا ما يسمح بالتأويل والاستنباط المتجدّد؛ لتحقيق المناط؛ ما طرأ على الإنسان من تحولات المكان أو غوائل الزمان. لذلك يمضي الخطاب على خطى العقل والحكمة؛ باعتبار أن القرآن هو إطار ناظم للقيم للعلمية أو العملية المتجدّدة بتجدّد الإنسان. ولذلك صار القرآن رحمة للإنسان والشريعة في الإسلام محبة وسلام للبشرية على اختلاف الأزمنة وتباين الأمكنة.
ولذلك يشدد الخطاب في فلسفته الفقهية ورؤيته المقاصدية التجديدية على عدم جواز الحكم أو الفتوى من خلال “النظر إلى الجزئيات دون فهم الكليّات، وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين منظومة الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد”. فالإحاطة بشروط التنزيل والمقاصد في النواهي والمفاسد، واعتماد منهجية، “التبيين” في “التعليل والتدليل والتأصيل والتأويل، وفتح الآفاق”؛ لبيان ما جرى تغييبه من النصوص؛ سواء في الاجتزاء، أو الإعراض عن الكليات، أو القصور في التأويل وسوء الاستنباط في تحقيق المناط. فهذا كله شرط أساس في فقه الواقع والتوقّع؛ في سياق الاحتفاء القرآني بالإنسان. وهو ما يجعل قضايا “الإنصاف”، و”التضامن”، و”السّلم العالمي”، “والخير الإنساني”، و”المواطنة الشاملة”، أهم العناوين في الخطاب؛ بكل المعاني الفكرية والثقافية أو الإنسانية عموماً.
أما “كلّي العصر والزمان”، فهو ما يوضحه ويفصّله بدقة الخطاب في اجتهاد فقهي مائز، تضمّنه كتاب خاص بعنوان “الاجتهاد في تحقيق المناط – فقه الواقع والتوقّع”. فالمُراد هو تقديم مقاربة؛ لتنزيل أحكام الشريعة في شمولها وعمومها وإطلاقها على بيئة معيَّنة وفي ظرف زماني ومكاني معيَّن. فالواقع هو التقاء بين الزمان وبين المكان والحدث في لحظة محدّدة، مع ملاحظة أن تلك اللحظة هي الزمان المقصود، وأن المكان مقيّد بذلك الزمان؛ باعتبار خصوصهما وتقييدهما، والذي من شأنه أن يؤثر في عموم النصوص وإطلاقها، وأن يعيد مراجعة لحظة النزول وبيئة الوحي؛ لاستحضار أسباب النزول الظاهرة والخفية، وإمكانيات القياس والاستنباط أو تحقيق المناط في الواقع. أما التوقّع فهو مآلات الواقع، فمن خلاله نحصل على معرفة تُوجّه للمستقبل. فالواجب اليوم يحتّم البحث الدائم والمتجدّد عن السلام والمحبة، لأنهما رسالة الإسلام للبشرية.
إن النزاعات في الثقافة الحديثة مستمرة، ولسوف تستمر إلى ما شاء الله لها من الاستمرار، ما لم تساعدنا حكمتنا وتعقّلنا العظيم في توجيه إراداتنا إلى تسوية ما، تسوية بين ما تدفع إليه الفلسفات الحديثة التي تبتز طموحاتنا في السعادة، وبين إمكانية أن تكون السعادة متاحة لجميع أفراد الجنس البشري على قدر كبير من التكافؤ والمساواة. وهي تسوية ممكنة، لكن شرطها الجوهري يكمن بقدرتنا على مساعدة أنفسنا في معرفة الخيرات التي لا يمكن أن تكون كما يجب أن تكون؛ إلا بقدر ما نكون مخلصين لهذه الخيرات؛ بكل أبعادها ومستوياتها أو درجاتها الوجودية/العلوية أو الفوقية/العليا أو العادية وما بينها.
وإذا كانت مثل هذه التسوية ممكنة، وأنها سوف تخرجنا من الإشكاليات المعقدة التي نختبرها في الحياة المعاصرة، فمردّ ذلك من دون ريب إلى قدرة العقل على معرفة المدى الكامل للخيرات التي يجب أن نحيا بها أو نعيش في ظلالها. كما يعود ذلك أيضاً إلى تعريف مناهلنا الأخلاقية وجذورها في الذات الإنسانية، وإطلاق قوتها في حياتنا. فالصياغات الفلسفية الحديثة للخيرات تمثل شكلاً من أشكال النفي، أي تقرّر التضحية بنوع من الخير لصالح نوع آخر. وهو ما يؤسّس بُنيات ذهنية من التناقض وأحيانا من العبث في قيم الخير، وبالتالي يجعل الذات الإنسانية متناقضة؛ بل متنافرة ومتنازعة. فالخير هو وحدة متجانسة من أعلى قيمه إلى أدناها، وهذه الوحدة هي التي تختزل الخيرية الوجودية، التي تأسّست عليها الذات الإنسانية، فلا بُدَّ من العمل على إعادة لحمة عُراها وترسيخها في روح الإنسانية الجديدة (أنظر: تشارلز تايلور، “منابع الذات الإنسانية – تكوّن الهُوية الحديثة”- ترجمة – حيدر حاج اسماعيل، ص – 211).
هذا هو جوهر الخطاب؛ سواء في مقارباته السلمية أو إمكانية الهندسة الإنسانوية الجديدة التي يتغياها. وقد تختزل هذه الرؤية، جوهر مناداة الشيخ الجليل، التي لا ينفكّ يردّدها منذ سنوات عدة، وهي مناشدة “أولي بقية من العالم؛ أولي عقول وتمييز؛ لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء”. فهي دعوة وجدانية تستحث العقلاء والحكماء على العمل معاً؛ من أجل عودة الروح الأخلاقية وإحياء الضمير الإنساني للبشرية المعاصرة. وهو ما جرت ترجمته من خلال إطلاق “ميثاق حلف الفضول العالمي الجديد” الذي جمع العقلاء والحكماء من مختلف الفلسفات الكونية الروحية أو الوضعية.