خاص لـ (هات بوست):
منذ اندلاع الحرب الأهلية المدمرة في السودان وقطبيها الرئيسين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، عاد السودان إلى دائرة العنف والانهيار بعد سنوات من الأمل الهش في الانتقال السياسي، ليقود البلاد إلى واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم. ومع هذا التحوّل برزت مواقف دولية وإقليمية متعددة تحاول التأثير في مسار الأزمة، إلا أن موقف دولة الإمارات ظل أحد أكثر المواقف وضوحاً واتساقاً في التأكيد على حماية المدنيين، ورفض الانتهاكات من أي طرف، ورفض عودة جماعة الإخوان إلى واجهة المشهد السياسي، مع تبنّي رؤية للحل تستند إلى الانتقال نحو حكم مدني يعيد بناء الدولة على أسس جديدة.
هذا التوجه ظهر بوضوح في البيانات الرسمية الأولى لدولة الإمارات وداخل أروقة الأمم المتحدة، والذي عبر عن قلق بالغ من الانتهاكات الواسعة التي ترتكب بحق المدنيين في الخرطوم ودارفور والفاشر وولايات السودان الأخرى، مؤكدة مراراً وتكراراً أن حماية المدنيين مبدأ ثابت يتقدم على كل حسابات أخرى. وقد شددت أبوظبي على أن استهداف الأحياء السكنية والمستشفيات والطرق الحيوية يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، وأن أي طرف- سواء الجيش أو قوات الدعم السريع أو أي مجموعات مسلحة أخرى- يرتكب هذه الأفعال يتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عنها. كما دعت إلى توفير ممرات إنسانية آمنة، وهدنة فورية تسمح بإغاثة المدنيين الذين يواجهون خطر المجاعة والانهيار الكامل للخدمات الأساسية.
وقد استند هذا الموقف الإنساني إلى فهم عميق للجذور السياسية للصراع، حيث ترى أبوظبي أن جماعة الإخوان وشبكاتها السياسية كانت من أبرز العوامل التي دفعت السودان نحو الانهيار على مدى عقود. فمنذ انقلاب 1989 الذي قاده عمر البشير بدعم من الجبهة الإسلامية القومية، بدأت سياسات عملية منهجية لاختراق مؤسسات الدولة، وتسييس الجيش والأجهزة الأمنية، وإضعاف الاقتصاد عبر شبكات ولاء أيديولوجية، والتي عمّقت الانقسام، وتركت الدولة منقسمة، وضعيفة المؤسسات، وغارقة في الحروب الأهلية، وعاجزة عن تحقيق أي استقرار حقيقي.
تلك الأسباب وغيرها أشارت بوضوح إلى أن عودة الإخوان لواجهة المشهد اليوم عبر استثمار الفوضى والحرب تمثل خطراً استراتيجياً على المنطقة، لأنها تعيد إنتاج أسباب الانهيار نفسها، وتفتح الباب أمام صراعات جديدة لا نهاية لها. ومن هذا المنطلق، تؤكد الإمارات أن الجماعات المتطرفة والمتصلة بالإخوان يجب ألا تكون جزءاً من مستقبل السودان، وأن أي تسوية سياسية تُبقي على هذه القوى أو تمنحها نفوذاً في مؤسسات الدولة لن تقود إلا إلى دورات جديدة من الصراع والفشل.
هذه الرؤية الاستشرافية ساهمت في بلورة دولة الإمارات لحل في السودان على أساس «سياسي- مدني» واضح في إطار الرباعية الدولية التي تضم الإمارات والسعودية ومصر والولايات المتحدة، دعمت أبوظبي خريطة طريق تقوم أولاً على وقف دائم لإطلاق النار عبر هدنة إنسانية شاملة، تليها عملية سياسية تأسيسية تشارك فيها القوى المدنية الحقيقية، لا المليشيات ولا الجماعات الأيديولوجية العابرة للحدود.
وفي إطار هذه الرؤية ترى دولة الإمارات أن السودان يحتاج اليوم وقبل غد إلى عقد سياسي جديد يعيد تعريف طبيعة الدولة وأولوياتها، ويضمن تمثيلاً عادلاً لأقاليمه المتنوعة، ويؤسس لسلطة مدنية تمتلك القدرة الفعلية على صنع القرار، دون هيمنة السلاح أو منطق الغلبة. وبهذه المنهجية المتدرجة، يمكن للسودان أن ينتقل من مرحلة الانهيار والفوضى إلى مسار دولة مستقرة قادرة على إعادة البناء.
ولم تغفل الرؤية الإماراتية جانباً جوهرياً يتمثل في إصلاح القطاعين العسكري والأمني، باعتباره ركناً أساسياً لأي تحول حقيقي في السودان. فالدولة لا يمكن أن تستعيد تماسكها من دون جيش واحد مهني وموحد يخضع لسلطة مدنية منتخبة، إضافة إلى تفكيك أو دمج القوات الموازية والميليشيات ضمن عملية انتقال تدريجية تمنع انهيار مؤسسات الدولة، وفي الوقت نفسه تضع حداً لتعدد الجيوش داخل الوطن الواحد. ويعكس هذا الموقف فهماً عميقاً لدى أبوظبي بأن أي مسار سياسي لا يرافقه إصلاح أمني سيظل هشّاً، وأن بناء السلام يبدأ بمعالجة جذور الفوضى المسلحة، لا بالاكتفاء بوقف مؤقت لإطلاق النار.
كما تؤكد دولة الإمارات أن العدالة والمساءلة عنصران لا يمكن التفريط بهما في أي تسوية مستقبلية، فالمجازر والانتهاكات الواسعة التي شهدتها دارفور والخرطوم وغيرها من المناطق لا يمكن تجاوزها من دون محاسبة حقيقية تضمن للضحايا حقوقهم وتمنع تكرار الجرائم. وانطلاقاً من هذا المبدأ، شددت أبوظبي مراراً على ضرورة ألا يفلت أي طرف من المسؤولية، معلنة دعمها لآليات دولية محايدة تعمل على توثيق الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، أياً كانوا.
ورغم الادعاءات التي تُوجَّه إلى دولة الإمارات بين حين وآخر- خاصة تلك التي تزعم دعمها لأحد الأطراف- أكدت أبوظبي للمجتمع الدولي التزامها الراسخ بالقانون الدولي، موضحة أن الرحلات والمساعدات التي تقدمها للسودان ذات طبيعة إنسانية تهدف إلى إغاثة المتضررين من الحرب، لا إلى إطالة أمدها. وتكرر دولة الإمارات أن الحل في السودان لا يمكن أن يكون عسكرياً، وأن جوهر الصراع اليوم لا يكمن في مواجهة بين جيشين، بل بين مشروعين: مشروع دولة مدنية مستقرة قادرة على الحكم والتنمية، مقابل مشروع جماعات أيديولوجية وميليشيات مسلحة تعيد إنتاج الفوضى والانقسام.
وانطلاقاً من هذا الموقف المتكامل- الإنساني والسياسي والأمني- تعمل دولة الإمارات على دعم السودانيين في عبور هذه المرحلة الحرجة، انطلاقا من إيمانها الراسخ بأن السودان، بما يمتلكه من ثروات بشرية وطبيعية كبيرة، قادر على النهوض مجدداً إذا توافرت بيئة سياسية مستقرة، ومؤسسات قوية، وحكومة مدنية تعكس تنوعه الحقيقي، بعيداً عن هيمنة الإخوان أو غيرهم من القوى التي دفعت البلاد إلى هذا المسار القاتم. كما ترى أن الوقوف إلى جانب الشعب السوداني في أزمته التزام أخلاقي وإنساني قبل أن يكون خياراً سياسياً، وأن مستقبل السودان- إذا عادت إليه السكينة – ينبغي أن يكون مستقبل دولة وطنية حديثة، لا ساحة صراع دائم بين جماعات مسلحة أو مشاريع أيديولوجية متطرفة.
