كاتب سعودي
دخل إلى مكتبي يتوسل الموافقة على طلبه (قرض مالي بعشرات الآلاف من الريالات) على أن يسدد من راتبه الشهري المتواضع. قلت له خير إن شاء الله لماذا تحتاج إلى هذا المبلغ؟ فقال: سأدفعه مهراً لزواجي. سألته هل لديك بيت؟ قال: أحاول الانتهاء من شقة بنيتها في سطح المنزل.
هذا الشاب يسكن مع والدته، وأربعة من إخوانه، وهو وأحد إخوته فقط من يعمل والبقية بلا عمل. والده الذي هو الآخر لا يملك دخلاً كافياً، بأي مقياس تركهم وتزوج من ثانية ولديها خمسة أطفال ويسكن في مدينة أخرى، ولا ينفق على عائلته الأولى أبداً. حاولت إقناع الشاب بأن يصرف النظر عن الزواج حالياً، حتى يتمكن مالياً من الوفاء بمتطلباته ومتطلبات الأولاد ورعايتهم وتعليمهم في ما بعد. قلت له إنك لن تستطيع حالياً أن تفعل ذلك مع المسؤوليات الأخرى التي حملها عليكم والدكم. طبعاً لم يقتنع وألحّ على الطلب ورفضت بدوري مساعدته. يقول إن أقاربه ينعتونه بشتى الألقاب لأنه بلغ الـ29 من العمر ولم يتزوج، قلت له: إن كان ذلك من باب الغيرة عليك فليمنحوك القرض أو يساعدوك، لماذا تأتي إليّ؟
هذا الشاب مع الأسف يمثل الكثير من الشبان ممن لم ينالوا نصيبهم من التعليم والخبرة في الحياة، ويظنون أن موضوع الزواج وبناء الأسرة مجرد حدث عابر لا توجد له تبعات ولا يخلف وراءه مسؤولية، أعتبرها شخصياً من أضخم وأخطر المسؤوليات، نحن إذاً أمام أزمة وعي لا يستهان بها، وهي أزمة لا تخص الفرد وأسرته، بل تتوغل داخل مستقبل الوطن وأمنه واستقرار أفراده.
قصة والد هذا الشاب والشاب نفسه، تعكس لنا قضية النسل وتحديده وخطورة تجاهله كركن أساسي وذي حدين من ركائز التنمية. أقصد أن عدد السكان إما أن يكون لصالح الخطط التنموية عندما توجد هذه الخطط، وقد يكون مدمراً لكل جميل عندما نفتقد الاستعداد التام له.
من خلال تجربة سابقة في الكتابة، تعلمت أن الحديث عن تحديد النسل يعتبر من الخطوط الحمراء عند البعض، مستدلين بالحديث الشريف، المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، منها ما رواه النسائي وأبوداود والإمام أحمد بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم»، ومنها «تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة»، وهو حديث صحيح رواه الشافعي عن ابن عمر. لكن الذي يغفل عنه البعض أن هذا الحديث قيل في زمن نشأة الإسلام عندما كان المسلمون قلة قليلة وهو نداء مشروع بلا شك. اليوم عدد المسلمين يربو على 1.5 بليون مسلم، ولهذا فالعدد كعدد مجرد ومطلق يعتبر كبيراً. هنا ندخل في روح الحديث الشريف والمعنى الذي قصده صلى الله عليه وسلم. أقصد بذلك القوة والمنعة والعزة بسبب تعداد المسلمين، فهل توفر ذلك؟ الذي أراه «اليوم» أن تنامي عدد السكان المسلمين وببالغ الأسف لم تواكبه نهضة علمية اقتصادية موازية تكفل لهذا العدد العيش بكرامة والحصول على التعليم المناسب، ولا يوجد دعم علمي حقيقي يجعل أبناء وبنات المسلمين رواداً كما كانوا قبل قرون.
الحقيقة أن تنامي عدد السكان اليوم أصبح جزءاً من المشكلات وليس الحلول. هنا نتساءل: هل أمرنا ديننا ورسولنا صلى الله عليه وسلم أن نحفر قبورنا بأنفسنا؟ بالطبع لا.
إذاً، فإما أن نفكر كعرب ومسلمين بتحديد النسل، أو نعيد النظر في النهضة الفاشلة التي تعم معظم بلادنا، التي لم ترَ النور بعد على رغم كل المحاولات. أي إما أن نخلف أطفالاً في بيئة سليمة نقية، ونستطيع تربيتهم التربية الصحيحة المفيدة التي تدفعهم إلى الابتكار، وتستغل حالات النبوغ لدى بعضهم، أو نحدد النسل في انتظار الحاجة الحقيقية لهذه الأنفس. أما هذه الفوضى فليست منها أية فائدة، بل إنها أصبحت وستصبح جلية بصورة أكبر مستقبلاً، عامل ضعف وعدم استقرار للكيانات المسلمة.
في مملكتنا الغالية نحن لسنا في منأى عن هذه الخطورة، حتى وإن لم نشعر بقسوتها في أيامنا هذه بعد، بسبب مداخيل النفط. على أن أي طالب إحصاءات في السنة الجامعية الأولى سيقول لنا: إن عدد الذكور والإناث ممن يبحث عن عمل ولا يجده، وبعد سنوات قليلة جداً سيصل إلى الملايين، بينما فرص العمل الجديدة لن تتجاوز بضع مئات من الآلاف. وهنا نطرح الأسئلة المصيرية وهي فعلاً كذلك، ماذا أعددنا لهم؟ بجانب بناء بعض المشاريع العملاقة التي تتكفل بها الدولة وليس القطاع الخاص، ما الجديد الذي يفترض أن نبدأ بتطبيقه لتحسين العجلة الاقتصادية بما يمكّنها من استيعاب هؤلاء؟ وأقصد بذلك دعم القطاع الخاص، وتوفير البيئة الاستثمارية المناسبة له لينمو ويخلق المزيد من فرص العمل. ما الخطة القادمة لمكننة الاقتصاد، وتحويله إلى اقتصاد منتج منافس، عوضاً عن ريعي كسول، يحتوي على الكثير من الهدر؟ هل سنمضي فقط ببناء المدارس والجامعات، ونتجاهل سوق العمل وتنوع الاقتصاد وتفرعاته الغائبة، التي بسببها نجد هذا الشح في عدد فرص العمل؟ وفي ظل ارتفاع الاستهلاك الداخلي للنفط، هل سنستمر في دعم البنزين والماء والكهرباء، حتى مع تضاعف عدد المساكن والسيارات ومحطات الطاقة؟ هذه ليست فقط أسئلة مصيرية، بل هي أسئلة مرعبة جداً، وتثير القلق والهلع لمن يستطيع استشراف المستقبل.
وأختتم بالعودة إلى موضوع تحديد النسل، وتفادياً لأي مصادمات، ما المشكلة لو نبدأ مثلاً بتقييد الزواج من امرأة ثانية، إلا مع توافر الملاءة المالية والقدرة على الوفاء بالالتزامات الأسرية؟ لو كنا نطبق ذلك لما استطاع والد هذا الشاب أن يتزوج الأخرى، ويخلف منها خمسة أطفال جدد، وينسى مسؤولياته الأولى. هذه خطوة بسيطة جداً، وأعتبرها تنظيمية ولا تصطدم بتفسير البعض لذلك الحديث الشريف. الفائدة الجانبية من تشريع كهذا هي نشر الوعي، وأهمية موضوع النسل، وهذا سيتحقق لأن الناس ستبدأ على الأقل بطرح الأسئلة التي لطالما تجاهلناها. ثم ما المشكلة لو بدأنا ببث الحملات التوعوية تزامناً مع هذا التشريع، التي توضح أهمية بناء الأسرة المثالية، بما في ذلك عدد المواليد الذي يمكّن الآباء والأمهات من القيام بتنشئة جيل ذكي متفتح نحو الإبداع والتنافس، بدلاً من التباهي فقط بالعدد والأسماء وجنس المولود؟ ولنتذكر أننا في زمن الكيف والجودة والتميز، وليس الكم الذي جاء وصفه في الحديث الشريف: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل..» إلى آخر الحديث.
ولمن يجهل خطورة النسل حتى بين الأمم الأقوى منا أدعوه إلى متابعة ما أقدمت عليه الصين من إجراءات لتحديد عدد المواليد بعد أن تحولت القضية لديهم إلى شأن أمني يهدد مستقبل البلاد.
المصدر: الحياة
http://ow.ly/DGq59