كاتب وصحفي لبناني
في انتظار أن تتضح نتائج زيارة وزير الخارجيّة الأميركي لمصر والسعودية، بات من المتفق عليه أن اهتمام رئيسه باراك أوباما بالداخل الوطنيّ يفوق كثيراً عنايته بالخارج الدوليّ. لكنّ الإشارات تتكاثر إلى أن المسألة باتت تتعدّى ذلك: فما نراه، وعلى أكثر من صعيد، هو حركة تراجُع تعصف بالعلاقات الخارجية للولايات المتحدة مع بعض أوثق حلفائها، من دون أن يطرأ أي تحسن على الأداء الداخلي لإدارة أوباما.
فقد سبق أن أُعلن من قبل عن تبني واشنطن سياسة اقتصادية فحواها تذليل الأزمة المالية عبر إنشاءات ومشاريع كبرى تقيم بنى تحتية، أو تجدد القائم منها، فيما تخلق فرص العمل المطلوبة. وغنيّ عن القول إن اقتراحاً كهذا ينبع من صميم العلاج الكينزيّ الكلاسيكي للأزمات، حيث تتوافر فرص العمل فيما يصار إلى إرساء أبنية صلبة للتقدم والنمو. لكنّ جهد الإدارة توقف على هذه الجبهة موجّهاً كل زخمه إلى برنامج الرعاية الصحية أو «أوباما كير». وهنا أيضاً، وكما بات معروفاً، لم يظهر شيء ملموس يمكن عدّه نصراً. وجاءت أزمة إغلاق الإدارة الأميركية مكاتبها وكفّ يد الحكومة الفيدرالية عن الإنفاق لترسم الحدود البعيدة لإخفاق أوباما الداخلي.
على أيّة حال، بقيت السياسة الخارجية مسرح الفشل الأكثر صخباً. فقد جاءت فضيحة التنصّت لتسيء، دفعة واحدة، إلى علاقات أميركا مع حليفات أساسيّات كألمانيا وفرنسا وإسبانيا، ناهيك عن بلدان أبعد كالبرازيل والمكسيك. وفعلاً كان للأمر وقع الفضيحة المطنطنة، خصوصاً إذا ما تأكّد أن أوباما كان، منذ 2010، على معرفة بالتنصّت على المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، وأنه لم يحرك ساكناً.
قبل هذا، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، ظهر تنافر أميركيّ مع كل من السعودية ومصر وباكستان وتركيّا وليبيا وإسرائيل، لأسباب عدّة منها ما يتعلّق بإيران ومشروعها النوويّ ومنها ما يتعلّق بسوريا أو مصر. لكنّ بعضها، كما في حالة باكستان، يتصل بالطائرات من دون طيّار (درونز)، لاسيّما بعد مقتل محسود، زعيم «طالبان» الباكستانيّة، أو يتصل بمعنى السيادة الوطنيّة، كما في حادثة محسود نفسها أو في إلقاء القبض على إرهابيّ «القاعدة» أبو أنس الليبيّ، ولم يُعدم هذا التنافر تعابيره الحادّة أحياناً، ما استدعى الجولة الجديدة لجون كيري إلى الشرق الأوسط.
لكنْ بغضّ النظر عن مدى الخطأ أو الصواب في هذا الموقف الأميركي أو ذاك، أوحى تضافر الأحداث تلك بأن الولايات المتحدة وصلت في انكفائها إلى حد لم تعد معه تريد أصدقاء لها في العالم! وهذا يبقى غريباً في حالة أية «قوّة عظمى»، اللهمّ إلا إذا قرّرت، مختارةً، ألا تكون «قوة عظمى»!
ما من شكّ في أنّ هذا الاحتمال الأخير يبقى مستبعَداً جداً. إلا أن الواضح أن تخبّط إدارة أوباما، وهو لم يعد بحاجة إلى البرهنة عليه، لا يكفي وحده لتفسير ما يجري.
فهناك، أولاً، المزاج الانعزاليّ الأميركي الراهن الذي يلتقي حوله، لأسباب مختلفة، يسار الولايات المتحدة ويمينها الرافضان لكلّ «تورّط عسكري» في الخارج. وهذا ما يتساوق مع صعود نجم أوباما بوصفه الرجل «الذي سيُخرج أميركا من الحروب، لا الذي سيُدخلها في مزيد منها»، على ما درج القول.
وهناك، ثانياً، الميل الذاتيّ إلى الحدّ من انتصارات ما بعد الحرب الباردة، الشيء الذي لا يعود إلى رغبة في الاستغناء عن الانتصارات، بل إلى رغبة في التخفف من المسؤوليّات والأعباء التي تحفّ بها. فلقد تصرّف الرؤساء الأميركيّون منذ أواخر الثمانينيات، بمن فيهم الديمقراطيّ بيل كلينتون، كما لو أنهم يريدون أن يعتصروا تلك الانتصارات حتى النقطة الأخيرة. وهذا الواقع الذي صاغته نظريّة القوّة الواحدة والوحيدة في العالم ما لبثت تكلفته أن تكشّفت عن حربين في أفغانستان والعراق في عهد بوش. هكذا استقرّ الوعي السياسيّ الأميركي في محصّلته على «ضرورة» التسليم ببعض المواقع لروسيّا وربّما الصين أيضاً، واعتماد الشراكة مبدأً ثابتاً في تسيير شؤون العالم.
وقد عزّز هذا الاتجاه أنّ الحربين في أفغانستان والعراق اللتين قامتا تحت شعار «الحرب على الإرهاب» إنما رتبتا نتائج سياسيّة ليست في مصلحة الولايات المتحدة.
ثالثاً واستطراداً، هناك الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي يُفترض أن يُنفذ في العام المقبل. والحال أن عملاً كهذا يدفع بدوره إلى ترتيبات أمنية مع دول المنطقة، لاسيما منها تلك المجاورة لأفغانستان، بما يحاصر الآثار السلبيّة التي قد تنجم عن الانسحاب.
رابعاً، كشفت ثورات «الربيع العربي» للغربيّين مدى قوة الإسلام السياسيّ في نمطه الراديكاليّ. فحتى في ليبيا حيث تدخلت الولايات المتحدة وحلف الأطلسي لإطاحة القذافي، قُتل السفير الأميركي في حادثة بنغازي الشهيرة. أمّا المعارضة السوريّة فلم تكتف بإبداء العجز حيال تلك القوى المتطرّفة، بل تقهقرت عسكريّاً أمامها من دون أن تبذل الجهد المطلوب لمخاطبة الرأي العام الغربي وكسبه في مواجهة نظام قاتل كنظام الأسد. وهذا جاء كله معطوفاً على الدروس السلبية المستخلصة من تجربه العراق و«بناء الديمقراطيّة» فيه.
وأخيراً، يتوّج هذه الاعتبارات جميعها أن الولايات المتحدة غدت أشدّ اكتراثاً بمنطقة آسيا والمحيط الهنديّ ممّا بالشرق الأوسط. وهذا التطلع الذي لا ينفصل عن تحوّلات نفطيّة في الولايات المتحدة نفسها، لا يتعارض مع المهامّ التي لا تزال تعتبر جوهرية، مثل الحفاظ على المصالح الغربيّة (والجميع مستعدون لتأمينها في النهاية) وعلى ضمان حركة ناقلات النفط وأمن إسرائيل ومحاربة «القاعدة» وكبح انتشار أسلحة الدمار الشامل. لقد أوجزت العبارة المنسوبة إلى سوزان رايس، مستشارة الأمن القوميّ، هذا الميل الجديد، حيث «هناك مناطق أخرى (غير الشرق الأوسط) في العالم».
فهل الأمر يقتصر على «تخبّط أوباما» أم أنّ هذا التخبّط تعبير عن الطريقة المشوّشة في فهم التحوّلات الضخمة الجارية، والتي ربما تكشّف، بعد حين، أنها لا تحدث إلا المزيد من التخبّط؟
المصدر: صحيفة الإتحاد