كاتب سعودي
ثبتَ لنا تضخّم أسعار الأراضي والعقار بأكثر من خمسة أضعاف معدل نمو دخول الأفراد خلال 2007-2012، وثبت أنّ رالي أسعارها المتصاعد جاء بدافعٍ من لهْث السيولة الهائل محلياً وراء قنواتٍ للاستثمار؛ فلم تجد إلا تلك الأراضي القفار لتُلهب أسعارها، ولحقتها تالياً السيولة المضاربية لتزيد الحريق اشتعالاً فاق الوصف، دافعاً ثمنها باهظاً الاقتصاد الوطني والمجتمع السعودي بكل شرائحه العمرية. غذّى تلك الحرائق إضافةً لضيق فرص الاستثمار المحلية ومعوقات بيئتها، احتكار الأراضي بصورةٍ جعلتْ من معدلات تركّزها في يد قلّةٍ ضيقةٍ جداً من كبار الملاك؛ الأعلى على مستوى اقتصادات العالم! محوّلاً تلك المساحات الشاسعة من الأراضي القابلة للتطوير على مستوى مدن وحواضر البلاد، الكافية لسُكنى أكثر من 65 مليون نسمة، ولتقبع ساكنةً خامدةً في غياهب الاحتكار، وخلف الشباك المنيعة الشائكة، ولتحلّق في آفاقنا الإعلامية والاقتصادية العبارة الأكثر تضليلاً وكذباً وتزييفاً ”شح الأراضي”.
جنّد العديد ممن استفاد ويستفيد – دون أدنى وجهٍ للحق- من الحالة المعقدة، التي وصل إليها المجتمع السعودي إزاء ”أزمة الإسكان”، أؤكد أنّها جنّدتْ بضيق عددها وأفقها أدواتها المشروعة وغير المشروعة لبثِّ تلك المقولة المضللة الكاذبة! والعمل كتابةً وقولاً وخطاباً على نشر إطروحاتٍ تزعم وصلها بالنظريات الاقتصادية؛ عناوينها الرئيسة:
(1) تحركات أسعار الأراضي والعقار الصاعدة أمرٌ مقبول، ويتوافق مع النمو الاقتصادي المحلي، وحجم الإنفاق الحكومي الهائل، إلى آخر تلك الهرطقات الهادفة لإسكات جميع أطياف المجتمع المتضررة كثيراً من تلك الارتفاعات، ومعها الجهات الحكومية ذات العلاقة حتى لا تتدخل.
(2) أنَّ أسعار الأراضي والعقار على الرغم من تلك الارتفاعات تظل متدنيةً جداً مقارنةً بغيرنا من البلدان، سواءً على المستوى الإقليمي أو حتى الدولي! ومن المتوقع في تقديرات ”جنود” المستفيدين منها، أن تستمر في الصعود لعدّة سنواتٍ قادمة، وهذه الرسالة تشمل إضافةً إلى ضحايا الارتفاع الرهيب للأسعار، موجهة لكل من يبحث عن تحقيق مكاسب قياسية على ثروته ومدخراته سواءً بدافع الاستثمار أو بدافع المضاربة!
فقاعةٌ تضخم العقار لم تكن لتنتفخ فقط بهذه الصورة المرعبة -كما سأبيّن بعد قليل- بدافعٍ وحيد من الأسباب التي ذُكرتْ في بداية المقال: (1) ضيق فرص الاستثمار المحلية وارتفاع جدران معوقات بيئة الاسثتمار، و(2) احتكار الأراضي بصورةٍ جعلتْ من معدلات تركّزها في يد قلّةٍ ضيقةٍ جداً من كبار الملاك الأعلى على مستوى اقتصادات العالم! لا؛ فقد لعبتْ كتابات وأقوال ومؤتمرات وورش عمل ”الجنود” المجنّدة لصالح المستفيدن دوراً أكثر خطورة، وأشد فتكاً من دور السببين الآنفين؛ إذْ صنعوا من خلال (1) ”التبرير والربط” الواهم المخادع بين سلوك الأسعار المتصاعد والنمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي، و (2) المقارنة المضللة بين واقع السوق المحلية والأسواق الإقليمية والعالمية، أؤكد أنهم صنعوا ”فقاعة” أخرى من التضليل والخداع، غّطّتْ عن سبق إصرار وترصّدٍ وتخطيط على ذهنية المجتمع والأجهزة الحكومية المعنية، ما أوقعنا جميعاً في شراك واحدة من أكبر الكذْبات في تاريخنا الاقتصادي طوال نصف قرنٍ مضى! وزاد بكل أسفٍ ومرارة من تورّم فقاعة التضليل الغياب شبه التام لأية بيانات أو معلومات، كان يمكن أن تساعد في الكشف عن حقيقة ما يجري فعلاً على أرض الواقع.
أثبتُّ من قبل وأؤكده هنا؛ زيف جميع إدعاءت كل من برر للارتفاعات المدمّرة في أسعار الأراضي والعقار، بالسلاح ذاته والأداة ذاتها، وذكرتُ استناداً إلى الإحصاءات الرسمية الصادرة عن المصلحة العامّة للإحصاءات والمعلومات، ووفقاً للبيانات الشحيحة جداً التي توافرت من خلال القوائم المالية لبعض الصناديق الاستثمارية العقارية المدرجة في السوق المالية، أنَّ مؤشر الأصول العقارية في الصندوق الاستثماري خلال 2007-2012 سجّل ارتفاعاً تراكمياً بلغ 143 في المائة (متوسط سنوي 24 في المائة)، مقابل متوسط نمو حقيقي للاقتصاد الوطني لم يتجاوز 7.6 في المائة للفترة نفسها، وأنَّ الارتفاع البعيد لنمو مؤشر تلك الأصول العقارية مقارنةً بنمو دخل الأفراد، خلق فجوةً تضخمية هائلة ومقلقة! أظهرتْ بصورةٍ لا تقبل الشك، أن نمو أسعار العقار للفترة 2007-2012م تجاوز خمسة أضعاف نمو الأجور! وهذه فقط لكشف زيف الحجة الأولى الواهية.
أمّا الحجة الثانية القائمة على المقارنة يمستويات الأسعار إقليمياً وعالمياً، في تجاهلٍ متعمّد لعامل دخل الأفراد! فقد ألجم كذْبها وزيف حجتها تحليل وضع سوقنا العقارية، بالاعتماد على أهم مؤشرين في مجال تقييم أسعار العقارات؛ الأول: مضاعف أسعار المساكن لدخل الفرد المتاح، كمقياس يستهدف التعرّف على قدرة الفرد على تحمّل التكاليف. والثاني: مضاعف السعر للإيجار، المشابه لمكرر الأرباح في تعاملات سوق الأسهم. وتوصلتُ وفقاً للمؤشرين إلى أن المواطن السعودي سيستغرق أكثر من 26 عاماً لأجل امتلاك مسكن! وفقاً لمتوسط دخله مقابل الأسعار الراهنة للعقار، وأنّ مقارنة وضعه مع المؤشر ذاته لبقية بلدان العالم بما فيها هونج كونج ”الأغلى عالمياً”، فإنّه يعتبر الأعلى دون منافسة على مستوى العالم!
إنَّ مما يزيد من حجم تحدّي أزمة الإسكان في بلادنا إضافةً إلى كل ما تقدّم من دلائل حقيقية وفعلية على ضخامة حجمها، أن تنظر في أحد أهم المؤشرات الديموغرافية بين الشرائح السكانية التي تطلب السكن ولا تستطيع امتلاكه، المؤشر الذي يتفحّص الفئات العُمرية لطالبي المسكن! في الاقتصادات المتوازنة ستجد أن أغلبية طالبي المسكن هم الفئات العُمرية الواقعة بين سن 30-45 عاما، فماذا عن حالة هذا المؤشر فيما يخص حالتنا المحلية؟! إنّها نتائج تتجاوز بنا حدود الصدمة، فكما بيّنتْ دراسة أعدّتها الجمعية الوطنية للمتقاعدين، يوجد نحو 40 في المائة من المتقاعدين لا يمتلكون مساكن (نحو 240 ألف متقاعد)! إذا كانت تلك الشريحة الغالية من المجتمع لم تستطع حتى تاريخه امتلاك مساكنها، وهي التي أثناء فترة عملها عاشت في زمنٍ لا يمكن مقارنة أوضاعه الأيسر معيشياً آنذاك، بما نواجهه في وقتنا الراهن من تحديات معيشية أكثر صعوبةً وغلاءً، أؤكد أنّها رغم ذلك لم تتمكّن من امتلاك مساكنها، فما بالكم بمن هم اليوم على رأس العمل (متوسط أجورهم الحقيقية 2160 ريالا شهرياً)، هل في ظنّكم لديهم لو فرصة 1 في المائة كقدرة على امتلاك مساكنهم؟! الآن؛ هل نستشعر حقاً أيُّ خطرٍ داهم مخيف نقف عليه جميعاً؟! وللحديث بقية..
المصدر: صحيفة الاقتصادية