تعليم العربية للناطقين بغيرها: أيّ عائدات تعد بها الثّورة الرقمية؟

آراء

خاص لـ هات بوست:

لا خلاف في القول إن الثورة الرقمية الجارية قد أحدثت تحولات كبرى في مضمار تعليميات (Didactics) العلوم واللغات المختلفة، إذ سمحت بتجاوز كثير من الطرائق والوسائل والوسائط التعليمية، كما أتاحت أسنادا (Supports) جديدة لتعليم المعارف والمهارات والقيم المتنوعة، علاوة على فتحها آفاقا بحثية واعدة أمام المشتغلين في مضمار البيداغوجيا وما يتصل بها من علوم، وهي آفاق أخذت في بعض الأحيان أوجها من التنافس الحامي، بسبب ارتباط الثورة الرقمية المذكورة بمصالح مادية، وكذا بسبب علاقتها القوية بمستويات التنمية التي تسجلها البلدان الرائدة في هذا المجال.

وهكذا فقد سارعت المؤسسات المسؤولة عن صياغة السياسات التربوية والثقافية لمختلف بلدان العالم، ونظيراتها المشتغلة بقضايا اللغويات، واللسانيات التطبيقية، إلى البحث في مضمار الرقميات، وتوظيف التقنيات المستجدة، لا لتحسين اكتساب اللغات وتسريع وتيرتها لدى الصغار والكبار، بل لتشبيك العلاقات بين اللغات عبر جسور الترجمة والتواصل الرقمي، مع ما ينتج عن ذلك من عائدات حضارية تعود على متكلمي لغات العالم المختلفة، ولا بأس من التذكير هنا بما يتيحه التلاقح اللغوي من فرص لتطوير اللغات والذهنيات.

تحتل اللغة العربية مرتبة متقدمة ضمن قائمة اللغات العالمية ذات الجاذبية، كما تزداد درجات الاهتمام بها سنة تلو أخرى، وذلك رغم تواضع الترتيب العربي في مضمار الإنتاج العلمي، وعدم انخراط المجتمعات العربية في دائرة مجتمعات المعرفة. ولئن حازت العربية هذا الترتيب المتقدم، فإن ذلك لا يعود بالضرورة إلى التعداد الديموغرافي العربي الذي يكاد يصل ربع مليار نسمة، ولكنه يعود إلى وجود إقبال متسارع على تعلم العربية من قبل غير الناطقين بها، لاعتبارات متعددة نعرض منها:

– توفير السند اللغوي لمساعي الولوج إلى السوق الاقتصادية العربية، وهي سوق واعدة أمام العديد من المنتجات الاقتصادية العالمية، ذات المحتوى المادي أو الرمزي، وخصوصا السوق الخليجية التي تعرف ارتفاعا على مستوى معدل الدخل الفردي لمواطنيها.

– امتلاك العربية لخصائص لسانية- تاريخية لا تتوفر لأي لغة عالمية حية، فهي لغة قديمة يفوق عمرها عمر مجمل اللغات العالمية الحية، إذ تماثل في عراقتها اللغة اللاتينية، التي تعتبر أم كثير من اللغات الأوروبية الجارية اليوم على الألسن (الفرنسية، والإيطالية، والبرتغالية..)، ونظرا لحيازة العربية هذه الخاصية الفريدة، فقد جرت العادة أن تستنفر جهود الدارسين اللسانيين الباحثين في شؤون التطورات الدياكرونية للغات من خلال متون لغوية شفوية (لا وجود لتسجيلات شفهية تخص اللغات القديمة)، فضلا عن الباحثين في موضوع التقابلات اللسانية الجارية بين فروع اللغات المختلفة، المنتمية إلى العائلات اللغوية المتقاربة والمتباعدة.

– تطور الحوامل الرقمية المستعملة في تعليم اللغة العربية، أسوة بكثير من اللغات العالمية، وهو ما سهل مهمة تعلمها أمام الراغبين في ذلك باعتماد الصيغة التفاعلية (عن بعد)؛ هذا، وتنضاف إلى هذه الاعتبارات شروط وظروف أخرى عديدة مرتبطة بمحركات شخصية أو بحثية جامعية، كما هو الشأن مع المراكز والجامعات بالدول الخليجية التي تخصص وحدات بحثية ودراسية عليا في تخصص اللغة العربية، وتراثها اللغوي والأدبي والفكري.

لا بأس من التأكيد، ختاما، على الأهمية الشديدة التي يكتسيها العامل الثقافي- المجتمعي في بلورة مشاريع في هذا الصدد. إذ لا مناص من صياغة مشروع عربي كبير، شريطة أن يكون نتاجا لاجتهاد جماعي تتم صياغته على نحو مؤسسي، تساهم فيه كل الدول العربية بمواردها المادية والبشرية الكفؤة، وهو ما يجب الانخراط فيه بشكل مستعجل، لأن من شأن هذا المشروع إكساب الدول العربية عائدات اقتصادية وحضارية كبرى، لا سيما وأن كثيرا من المنتجات والتعابير الفنية العربية تحوز، في ذاتها، إمكانيات كبرى للانتشار، ولا يقف أمام تنافسيتها سوى عائق اللغة، وما يتعلق به من الشروط التواصلية المختلفة.

2