كاتب إماراتي
«ساهمَت تجارة الرقيق في تدمير المجتمعات الإفريقية، ودفعت بالأوروبيين إلى إنكار انسجامهم ثم فرض ثقافتهم عليهم، وبالتالي قاموا بالاعتداء على هوية الأفارقة (…) وفي بداية القرن السابع عشر بدأ التجار في لندن باستيراد الذهب والعاج من إفريقيا، إلا أنهم لم يعرفوا شيئاً عن شعوبها. وكل ما كانوا يتداولونه هو قصص خرافية عن مدن مملوءة بالذهب، ما أدى إلى تجاهل ثقافات تلك البلاد، وصارت إفريقيا مصدراً رئيساً للعبيد، وتحول هذا الجهل إلى عنصرية استُخدِمَت لاحقاً لتبرير أبشع أنواع الاستغلال».
كُتِبَت هذه الفقرة على جدار في متحف ميناء لندن، وخُصص فيه قسم كامل للحديث عن تجارة العبيد التي اشتهرت في أوروبا إبّان تنافس دولها قديماً على استنزاف ثروات الشعوب الإفريقية. ويستغرب زائر المتحف من الكتابات التي «تعترف» بعنصرية الأوروبيين والإنجليز تجاه الأفارقة وكيف قاموا باستعبادهم واضطهادهم. ولم يخجل المؤرخون من انتقاد ذلك التاريخ الذي وصفوه بالعنصري والمظلم، حيث وُضِعَت فقرة على نفس الجدار لأحد المؤرخين قال فيها: «من الغريب أن شعوباً تُعَدّ اليوم أحد أكثر شعوب العالم تحضراً، كانت تظن في يوم من الأيام أن العبودية، والسرقة، والقتل أعمال ليست إجرامية». ويخلص الزائر في النهاية إلى أن الشعوب الأوروبية قد كانت بربرية في الماضي، ولكن لأنها اعترفت اليوم بأخطائها القديمة، فإنها استطاعت أن تتخلص من أعبائها النفسية، وتجاوزت صراعاتها الحضارية، ثم تفرغت للمعرفة والتنمية.
وهذا بالضبط ما نحتاج إلى فعله اليوم كعرب ومسلمين. أن نعترف بهفواتنا التاريخية، ونقر بأخطائنا وبتجاوزاتنا تجاه بعضنا بعضاً وتجاه الآخرين. علينا أن نعترف بأننا عنصريون تجاه من يختلف معنا في الدين، وأننا نحقر غيرنا من أعراق، لأننا نظن، كغيرنا من الأمم، بأننا أفضل أمة. علينا أن نعترف، في الخليج على الأقل، بأننا عنصريون تجاه الخدم في بيوتنا، ومعظم العاملين لدينا من الجنسيات الآسيوية. وبأننا نعتقد أن لنا الحق في إهانتهم أمام الناس، وفي إيقاظهم من النوم بعد منتصف الليل ليحضروا لنا الطعام. علينا أن نعترف، ليس لأن الاعتراف بالحق فضيلة، فهناك فضائل كثيرة نسيناها في صراعنا مع أنفسنا، ولكن لأن اعترافنا بهفواتنا وعِللنا وضعفنا ومحدودياتنا المعرفية اليوم كأمة هو أولى مراحل العلاج.
على السنة والشيعة أن يعترفوا بأن تكفيرهم وشتمهم بعضهم بعضاً لن يجعل العالم مكاناً أفضل للعيش لأي منهم، وأن نشر الفتن ما بينهم لن يساعد طرفاً في التغلب على الآخر. قد يكون هذا الكلام مثالياً إذا ما حاولنا تطبيقه على المستوى السياسي أو النخبوي، ولكنه ليس كذلك على المستوى الفردي. لو رفض الشيعي أن يشتم سنياً، ولو رفض السني أن يكفّر شيعياً، فإننا حينها فقط سنخلع عباءة العنصرية بصدق، وسنتجاوز هوّة كبيرة تعيق تقدمنا الحضاري، وسنفتح المجال للأجيال القادمة لكي تركز على تنمية ذواتها ومجتمعاتها، وسنتيح لهم الفرصة لكي ينشغلوا بالمعرفة والتنمية والعلوم، بدل أن ينغمسوا، مثلنا، في تكفير هذا وتخطئة ذاك.
أنا لست مع مبدأ التقريب بين الأديان والمذاهب، وأظنه عملاً طوباوياً مثالياً لا يمكن تحقيقه. ولكنني مع احترام الأديان والمذاهب، ومع الإيمان بحقها في العيش وممارستها شعائرها ومعتقداتها طالما أنها لا تبخس حق غيرها ولا تقلل من احترامهم. فإذا وُجد الاحترام تحقق التسامح، وعندما نؤمن بحقوق غيرنا فإننا حينها سنكون أمة عظيمة.
سنكفّر عن خطايانا كأمة عندما نكف عن محاولة تقمص دور الأنبياء، وعندما ندرك أننا لن نعود خير أمة ونحن نغلف مجتمعاتنا بغلاف «الفضيلة» ثم نمارس تحته أبشع الجرائم ونرتكب أقبح الخطايا ونأتي أرذل أنواع الموبقات، ثم ندّعي أننا نعيش في مجتمعات محافظة! فلمجتمعاتنا وجهان: الأول هو المجتمع المرئي الذي يلبس فيه الجميع أثواباً بيضاء، ويدعون للفضيلة والتقوى تحت ضوء الشمس. والثاني، وهو المجتمع الحقيقي الذي نغتاب فيه بعضنا بعضاً، ونعاقر الرذيلة، ونحيك المؤامرات، ونقتل الإبداع. وسنكفر خطايانا كأمة عندما نعترف بأننا عنيفون ونمارس التسلط في كل شيء وفي كل مكان؛ مع الأطفال وضد المرأة، وننفجر لأتفه الأشياء، وندافع عن آرائنا بشراسة، وننسى أن آراءنا ليست أعراضنا لنستميت في الدفاع عنها.
وعلينا أن نعترف بأننا لسنا اليوم أفضل أمة، على المستويين العلمي والديني؛ أي أننا لم نعد نفهم الدين حق المعرفة، ونجهل معانيه العُليا وغاياته السامية، لأننا نتعامل معه كعقد تجاري؛ نبحث عن المكافآت المدرجة في بنوده، ونتحايل على شروطه الجزائية.
لتكفير خطايا الأمة نحتاج إلى قراءة تاريخنا بتجرّد، ولنبدأ بمتحف (افتراضي) نُقرّ فيه بتجاوزات الماضي حتى نتصالح معه ونضعه في حجمه الصحيح، دون تعظيم مُطلق أو تقزيم فجّ. عندها فقط سنَجبُر انكساراتنا، وسنبدأ من جديد، علّنا نعود يوماً، خير أمة.
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣٢١) صفحة (١٨) بتاريخ (٢٠-١٠-٢٠١٢)