كاتب سعودي
قبل أيام، نشر تطبيق «سنابشات» صوراً وفيديوهات من عاصمة الكيان الصهيوني تل أبيب. وكما يحدث كل مرة، تكرر حديث خجول حول مقارنة فلسطين المحتلة تحت حكم الصهاينة ببقية العالم العربي، باعتبار «عواصم العرب» تحترق؛ بسبب حروبهم وصراعاتهم الأهلية وثوراتهم واستبدادهم، في مقابل التقدم والتحضر الذي يُشاهد في تل أبيب.
عوضاً عن أن المعطيات غير دقيقة، ومعايير التقويم غائبة، وتختصر الحاضر والتاريخ ببضع ثوانٍ بثت عبر تطبيق في هاتف ذكي، ويتعامى عن الجرائم اليومية لهذا الكيان الغاصب، إلا أن الحديث عن هذه الآراء مهم، وإن لم تكن ظاهرة، بقدر ما هي وسيلة للفت انتباه والحصول على شهرة لحظية. الأمر هنا يشبه تماماً، لو انتصر تنظيم مجرم كتنظيم داعش، وبدأ بالاحتفال بعد عقود بانتصاره، وربما مدنيته وتسامحه، وربما أسس مدينة سماها «البغدادية» تيمناً بخليفته، هل هذا سيمحو ماضيه الأسود آنذاك؟ بالتأكيد لن يحدث هذا.
لم ينس أحد أن تنظيم داعش عبارة عن خليط من أمم وجماعات مختلفة متباينة تجمعت من أصقاع الأرض؛ لتبني تنظيمها وتمارس إجرامها. لن ينسى أن هذا التنظيم يبني سطوته بالدم، يهجر ويقتل كل من يقف في طريقه، بغض النظر عن عرقه أو دينه، فيقتل العرب والأكراد والتركمان ويبطش بالمسيحيين والمسلمين، الشيعة والسنة، وكل من يخالفه. يطمس كل فكر لا يتفق معه، وكل تراث لا يروق له. يثور ضد كل ما هو موجود وقائم؛ ليبني واقعه كما يشاء بالدم.
نحن لا ننسى جرائم داعش؛ لأننا نتجرعها كل يوم ونخشى تمددها. تشجبها خطب الجوامع، ونقرأ الانتقادات تجاهها في مقالات الصحف، ونسمعها في الإذاعات، ونشاهدها في المسلسلات التلفزيونية، لكن بعضنا ينسى جرائم الكيان الصهيوني، على رغم أنها مستمرة ولم تنقطع منذ عقود. ربما لأنه لم يشاهدها كما يجب، أو لم يفهمها كما يجب.
الصهاينة أسسوا كيانهم بالطريقة ذاتها، تجمعوا من مشارق الأرض ومغاربها تحت لافتة الأيديولوجيا الصهيونية؛ ليقيموا دولة عنصرية، واستعمار أراضٍ ليست لهم، وطرد وقتل وتهجير سكانها، ليبنوا «تل أبيب»، التي يتحدث البعض عنها بإعجاب وإكبار.
هناك شعب عربي فلسطيني يطالب بأرضه، هناك مهجرون يريدون العودة إلى ديارهم، وصامدون هناك في مواقعهم يناضلون. الصهاينة مارسوا الإبادة الجماعية وما زالوا، والحصار الجماعي وما زالوا. إن كان سجل داعش الإجرامية الذي نرفضه يقدر بنصف عقد، فسجل إرهاب الصهاينة مستمر منذ ما يزيد على نصف قرن.
«الهاجاناه والأرجون» وغيرها من العصابات الصهيونية ارتكبت مذابح بلدة الشيخ ودير ياسين ومذابح أخرى منذ أربعينات القرن الماضي. تحول هذه العصابات إلى دولة معترف بها من الأمم المتحدة، وممارسة المجازر ذاتها في غزة خلال العام الماضي تحت اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي» لن يجعل حقيقتها تتغير، فهي عصابات مغتصبة عنصرية مهما فعلت وتنكرت. الأفكار المستفزة تجاه الصهاينة، ومحاولات تقليل جرائمهم ضد الإنسانية، أو التهوين من احتلالهم لأرضٍ عربية، يمكن تفسيرها في سياقات عدة.
فالبعض يشتبك الموقف من فلسطين في ذهنيته بالموقف من الدين؛ باعتبار أن جزءاً من أهمية فلسطين يأتي من منبع ديني. ففي القدس تصمد مقدسات المسلمين والمسيحيين جنباً إلى جنب، في الوقت الذي مثل فيه «العهد الديني التوراتي» جزءاً من ادعاءات الصهاينة بأحقيتهم بحكم فلسطين. وتم استخدام الدين ورمزية المسجد الأقصى لحشد المسلمين لدعم القضية الفلسطينية، لاسيما من الإسلاميين. من هذا الترابط بين الدين والقضية الفلسطينية؛ يصبح الموقف من فلسطين موقفاً من الدين أيضاً لدى البعض، ومن ثم ينطلق البعض من رفضه للدين؛ لرفض القضية الفلسطينية برمتها، والتسليم بحكم الصهاينة عليها، واستخدام هذا الموقف لاستفزاز المتدينين، كجزء من نقمته على الدين.
بالتأكيد أن هذا لا يعني أمرين: لا يعني أن كل من يوافق الصهاينة لا ديني. كما أنه لا يعني أن كل لا ديني صهيوني، لكنه يعني باختصار أن هناك من يكون موقفه من فلسطين امتداداً لموقفه من الدين. فيترجم رفض الدين لرفض لكل ما هو مرتبط به، وفلسطين من الأشياء المرتبطة بالدين والمتدينين.
آخرون يتخذون الموقف ذاته؛ بسبب نقمة أيديولوجية. فيتم اتخاذ موقف سلبي من القضية الفلسطينية، كامتداد لموقف سلبي من الأيديولوجيات التي رفعت شعار تحرير فلسطين، وارتكبت جرائم ونقائص باسم هذا الشعار.
فيتم ترجمة كره جمال عبدالناصر والناصرية باتخاذ موقف إيجابي من الكيان الصهيوني. وهذا يشمل كره حزب البعث بشقيه العراقي والسوري، والذي كان يحشد الجماهير باستخدام شعارات تحرير فلسطين. ويمتد هذا السبب الأيديولوجي ليشمل أحزاباً أخرى غير قومية تمارس الفعل نفسه اليوم كحزب الله أو إيران الخميني. فيكون الموقف من فلسطين امتداداً للموقف من الخمينية وحزب الله، فرفض أعمال هؤلاء في سورية والعراق ولبنان يترجم لرفض حتى القضايا التي يتحدثون عن نصرتها، وإن كانت محقة في جوهرها.
لا يمكن وصف هذه المواقف إلا بالرداءة. فالقضية الفلسطينية فوق هذه الأيديولوجيات. واستخدام قضية عادلة لتبرير جريمة يدين المجرم لا القضية. والمتعاطفون مع القضية الفلسطينية ينحدرون من خلفيات عرقية وأيديولوجية ودينية مختلفة، ما يجعل الموقف منها أخلاقياً وسياسياً، للعرب وغير العرب، للمسلمين والمسيحيين وغيرهم.
المثير للاستغراب، وربما السخرية، أنه في الوقت الذي بدأت فيه القضية الفلسطينية كسب تعاطف في مناطق لم تكن متعاطفة معها يوماً في أوروبا والولايات المتحدة على خلفيات الاعتداءات الصهيونية على غزة وحصارها، تظهر أصوات متعاطفة مع الكيان الصهيوني من بين العرب!
المصدر: الحياة