باحث سعودي
يتفق الجميع، فيما أظن، على أن العدالة هي أسمى مرادات الإنسان في كل بلاد العالم، الآن كما في سائر الأزمنة. ويحفل تراثنا الثقافي بالكثير من القيم والمقولات التي تمجد العدالة وتدعو إليها. لكن نقاشاتنا الراهنة تبدو مشغولة بالمثال الأعلى؛ أي العدالة في صورتها المجردة، وهي فقيرة فيما يخص التفصيلات القابلة للتطبيق والحساب.
التوزيع العادل للموارد والفرص المتوفرة في المجال العام هو – على الأرجح – الموضوع الأبرز لنقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرن العشرين. بناء على اعتقاد فحواه أن هذا المفهوم يشكل جوهر الرابطة الاجتماعية والهدف الأعلى لأي نظام سياسي. ومع هذا التطور تباعد مفهوم العدالة التوزيعية عن جذوره الفلسفية النظرية التي ورثناها عن أرسطو، واندرج بشكل متزايد في النقاشات المتعلقة بالاقتصاد والسياسة، حيث اتخذ عنوانًا أكثر خصوصية، هو «العدالة الاجتماعية». التطور الآخر البارز في الأبحاث الخاصة بهذا المجال، هو التركيز على «تمكين» المجتمع والأفراد باعتبارهم محور الجدل حول مسألة العدالة. ولعل أبرز النقاشات الخاصة به ترجع إلى النصف الثاني من القرن العشرين فحسب.
يدور مفهوم التمكين حول جعل الأفراد، ومن ورائهم المجتمع الأهلي ككل، مساهمين فاعلين في تحقيق العدالة لأنفسهم، بدل التعويل التام على الدولة، كما كان الأمر في الماضي. من المفهوم أن الدولة ستحتفظ بدور توجيهي في هذا المجال، لكن المجتمع سيكون الحامل الرئيسي لعملية توزيع الموارد. نجاح هذا التحول مشروط – على أي حال – بتقبل رجال الدولة لتحويل هذه المهمة إلى المجتمع. وقد أشرت إلى هذا الشرط بالخصوص لسبب واضح، هو الميل الطبيعي عند الدولة للتمركز واحتكار مصادر القوة. وهو ميل يظهر بوضوح أكبر في الأقطار النامية والمجتمعات التقليدية مثل مجتمعنا.
وللمناسبة، فإن شرائح مؤثرة في النخب السياسية، حتى في البلدان الصناعية، لا تظهر تعاطفًا مع هذا الاتجاه، سيما مع الربط العضوي بين تمكين المجتمع وتخلي الدولة عن مصادر القوة، وبينها قوة التأثير في الاقتصاد. لعل أبرز النجاحات التي تحققت في هذا المجال، في الولايات المتحدة مثلاً، هو تقبل الدولة بشكل نهائي لفكرة تخليها عن أي عمل ذي طبيعة تجارية، وهو جزء من المهمة. بعض المفكرين يربط تلك المقاومة بمفهوم التمايز الذي يسم ثقافة النخب السياسية، وبعضهم يربطه بأعراض المجتمع نفسه عن تولي أمر نفسه، وميل الغالبية، سيما الطبقات الشعبية إلى الاتكال على الدولة حيث استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
لهذه الأسباب، فإن تمكين المجتمع في صورته النهائية قد يأتي متأخرًا جدًا. لكن الخطوات الأولى ليست قليلة الأهمية والتأثير. نحن نتحدث عن تمكين الناس من تطوير حياتهم على النحو الذي يرتضونه لأنفسهم. هذا يتطلب مجموعة مقدمات تستطيع الدولة إنجازها دون كلف سياسية كبيرة. من بين الخطوات الضرورية في هذا المجال، نشير إلى تطوير المنظومات القانونية بما يجعل الانطلاق سهلاً على الأفراد، تعديل الأنظمة الخاصة بحركة الرساميل، وتمكين الأفراد من الحصول على تمويل سهل ومناسب من المصارف، أو السماح بإقامة قنوات تمويل موازية.
لكن كل هذه المبادرات قد لا تكون مؤثرة ما لم نبدأ بوضع استراتيجية وطنية لتشجيع ودعم المؤسسات الفردية الصغيرة والمتوسطة، بحيث تصبح على المدى المتوسط (10 سنوات مثلاً) مساهمًا ملموسًا في الناتج القومي العام وتوليد الوظائف.
زبدة القول، إننا بحاجة لإقناع الدولة بأن تتخفف من أعباء الاقتصاد ما استطاعت. لكن ليس بتركه هملاً أو تسليمه لأسماك القرش المفترسة. بل بمساعدة الطبقة المتوسطة على الانتقال التدريجي من هامش المنافسة الاقتصادية إلى قلبها.
إن الهدف المحوري لاستراتيجية كهذه هو تمكين عامة الناس، الأذكياء والطامحين منهم خصوصًا، على الإمساك بأقدارهم، والتحول من أرقام هامشية في المجتمع إلى قوة مؤثرة في تسيير الحياة الاجتماعية وبناء المستقبل. وفي ظني أن تحولاً كهذا سيخلق دينامية جديدة تخدم الاستقرار وتقاوم الميول التأزيمية أو الانقسامية.
المصدر: الشرق الأوسط