خاص لـ هات بوست:
طوال أسبوعٍ كاملٍ أرقّني سؤالٌ واحد: هل حقًّا يشغلنا الغياب أكثر من الحضور؟
وإذا كانت الإجابة في حالاتٍ عديدة: نعم، فما الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
يبدو، بطريقةٍ ما، أن في فطرة الإنسان نزعةً خفيةً تجعله لا يرى قيمة الأشياء إلا حين تفلت من يده. وكأننا لا نتقن التقدير إلا من زاوية الغياب، حين يتحوّل الحضور إلى ذكرى، ويصبح ما كان مألوفًا استثنائيًا لمجرد أنه لم يعد موجودًا.
وتلك ظاهرةٌ نفسيةٌ قبل أن تكون سلوكية؛ تُرجعها دراسات علم النفس إلى ما يُعرف بـ«تكيّف المتعة» Hedonic Adaptation، وهو ميل الإنسان إلى التعود السريع على النعم والمكتسبات حتى تفقد تأثيرها العاطفي مع مرور الوقت.
هل تذكر تلك اللوحةَ الرائعة الجمال التي سعيتَ لامتلاكها، وأفردتَ لها زاويةً أثيرةً في منزلك؟ كم مضى من الوقت قبل أن تغدو وتروح بجوارها دون أن تشعر بوجودها؟
وماذا عن ذاك المنتجع السياحي الذي حلمتَ بقضاء عطلتك الصيفية فيه؟ شهقتَ لجمال الإطلالة، للخُضرةِ اليانعة والمياه الرقراقة والطيور المحلّقة، لكن ما إن أمضيتَ فيه بضعةَ أيامٍ حتى ألفتَه، بل صرتَ تتأفّف من طبيعة الجو ومن طنينِ بضعِ حشراتٍ تتطاير حولك وتزعجك.
كما أن ألمَ الخسارةِ أقوى نفسيًّا من متعةِ المكسب؛ أي أن فقدانَ شخصٍ أو فرصةٍ يترك أثرًا مضاعفًا مقارنةً بفرحةِ الحصول عليه في الأصل، وهو ما يُعرف بـ«انحياز الخسارة» Loss Aversion.
يثير الغياب في النفس شعورًا بالندم على ما لم يُفعَل أو ما لم يُقَل، وهو من أشد المشاعر ألمًا، لذلك يطغى أثرُه ويستمر طويلًا في الذاكرة.
كما أن الإنسان بطبعه يميل إلى التوازن، وعندما يُخِلّ الفقد بهذا التوازن، يشعر باختلالٍ داخليٍّ يدفعه إلى استحضار قيمة الشيء المفقود، في محاولةٍ نفسيةٍ لتعويضه باجترار الذكريات.
ومع ذلك، فمن شأن المرء أن يألف الخسارة أيضًا ويتأقلم مع أوضاعها، سواء فقد وظيفةً أو عاش كوارثَ الحروبِ والأوبئةِ وغيرها من الأزمات.
ولو تناولنا الفقد من منظورٍ علميٍّ عصبيٍّ، لوجدنا أنه ينشّط في داخلنا مناطقَ مسؤولةً عن الإنذار والبقاء، كاللوزة الدماغية، وهي الجزء الذي يتعامل مع الخطر ويعدّه تهديدًا مباشرًا لاستقرارنا النفسي؛ لذلك يُصدر استجابةً عاطفيةً قويةً كالحزن والخوف والحنين، ليجعلنا نتعامل معه بجدّية.
كما يُفرِز الدماغ نسبًا أعلى من هرمون التوتر (الكورتيزول) وهرمون اليقظة (النورإبينفرين) ، فينشط الشعور ويُحفَر الحدث في الذاكرة بوضوحٍ أكبر.
أما الحضور فلا يثير تلك الاستجابة؛ لأنه آمنٌ، مألوفٌ، لا خطرَ فيه. بالقرب تُفرَز مواد كالسيروتونين والدوبامين تمنحنا رضا وهدوءًا وسعادة، لكنها لا تترك بصمةً قويةً في الذاكرة؛ نعيش اللحظة، لكن لا نحفل بها تمامًا.
أما لو أردنا أن نبحث أيضًا في الأسباب الاجتماعية، فسنجد أن في البيئات التي تُقيِّد التعبير عن المشاعر أو تعتبره ضعفًا، يميل الناس إلى كبت الامتنان أو المودّة، فلا يُدركون عمق روابطهم إلا بعد الخسارة.
ناهيك عن ثقافةِ الانشغالِ والتسارعِ التي جعلتنا نعيش في دوّامةٍ من الإنجاز، فننسى أن نلتفت لما بين أيدينا. وعندما نفقد، تتوقف العجلة فجأةً، فنشعر بما كنا نمرّ عليه مرور الكرام.
هناك أيضًا التربيةُ على الاعتياد لا على الامتنان؛ فكثيرٌ من الناس تربَّوا على فكرة أن “ما لدينا هو العادي”، لا على أنه “نعمة قابلة للزوال”. وهذا يغرس نوعًا من التبلّد تجاه النعم اليومية، وعندما يخسر الإنسانُ شيئًا، يدرك فجأةً أنه كان يمتلك أكثر مما ظنّ.
أضف إلى هذا كله غيابَ ثقافةِ التدبرِ والسكينة؛ حين يغيب التأمل، يغيب الوعي بالجمال في أبسط تفاصيله الصغيرة. فيأتي الفقد إذًا كلحظة تبصّرٍ قسري، تفرض علينا التمعّن فيما تجاهلناه طويلًا.. ليس شرًّا مطلقًا، على ما يبدو!
يقول الدكتور مصطفى محمود:
“نحن مصنعون من الفناء.. ولا ندرك الأشياء إلا في لحظة فنائها.. نشعر بثروتنا حينما تفرّ من يدنا، ونشعر بصحتنا حينما نخسرها، ونشعر بحبنا حينما نفقده.”
وبعد هذا البحث المضني والشرح الوافي، أستطيع أن أقول: لسنا في الواقع سربَ أسماكٍ لا يشعر بالماء حتى يُلقى على اليابسة، ولسنا بناكري جميلٍ ولا فاقدي شغف، ولسنا بالتأكيد بلا إحساسٍ ولا مشاعرَ صادقة، لكننا بشرٌ قد ينفعنا بعضُ المران على الامتنان الواعي، وحمدُ النعم، واستشعار اللحظة، لإدراك قيمة الأشياء قبل أن تُسلب منا.
