خاص لـ هات بوست:
دعونا نعترف؛ يشعر جل مهووسي القراءة، الواقعين في غرام الأحرف والكلمات، ورائحة الحبر المعتق، وحواف الورق الجارحة، وردهات المكتبات ومنعطفاتها وأماكنها السرية، ومسراتها الخفية، أنهم مدينون بضريبة ما لكل هذه المتعة.
يتوقعون حاصباً من السماء، أو على أقل تقدير يقدمون الضحايا والقرابين لمعبد القراءة من حقبة لأخرى.
شخصياً، أصدق تماماً أن الجاحظ المأسوف على جحوظ عينيه، لقي حتفه تحت أنقاض مكتبته، أرى أنه بلغ بذلك منتهى كماله، ولست أعبأ بالأقوال المشككة في ذلك.
أما تبرّأت منه أمّه لكثرة قراءته؟ أما أثْرى هذا العبقري خفيف الظل، المكتبة العربية والإسلامية، بمؤلفات لا تعد ولا تحصى في كل شيء تقريباً؟ لا تبدأ عند البيان والتبيان بأجزائه الأربعة، ولا تتوقف عند البخلاء، ولا تنتهي عند الحيوان بمجلداته الثمانية!
وليس قوله: «لا أعلم قريناً أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا شجرة أطول عمراً، ولا أجمع أمراً، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مُجتنىً، ولا أسرع إدراكاً، من كتاب» بأعظم ما قال في الكتب.
أرى أيضاً أن العمى نهاية منطقية جداً لبورخيس، الرجل الذي تخيل الجنة أقرب إلى مكتبة كونية، من قال إن الطريق إلى الجنة مزروع بالزهور والرياحين؟
ونجده يجاهر بقوله: «ليفخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها، أما أنا فسأفتخر بعدد تلك التي قرأت».
قرأ وكتب ونقد وتخيّل وأبدع في مجالاتٍ عدّة، لعلّ أبرزها الشعر والقصة القصيرة، ما يكفي ليحظى بعمًى مُضيء!
هل ترون معي صدفة الجحوظ والعمى؟
في رحلة عودتي بالطائرة أيام الطفولة الغضة، حملت معي حقيبة قماشية لا أنسى أنها كانت بيضاء، وملأتها بما لا يقل عن ثلاثين لغزا من ألغاز المغامرين الخمسة، التي كنت أعشقها.. بعد إقلاع الطائرة بمدة وجيزة، جاء رجل كبير في السن يشبه قبطان سفينة ملتح، يرتدي زيًا أظنه الآن من طاقم الطائرة، واستأذن أن يجلس في المقعد المجاور لي، حاورني قليلاً، ثم سألني عن سر هذا العدد المهول من الكتب الذي أحمله معي؟ فأجبت بكل ثقة أنها لتسليتي أثناء الرحلة.
دُهش الرجل، وغرق في ضحك كثيف دمعت منه عيناه، وأنا احترت في سر ضحكه واستأت منه، فإذا كان لا يضحك معي، فلا بد أنه يضحك عليّ.. وربما فهمت بالكاد سر ضحكه عندما لم أنهِ أكثر من كتاب واحد في تلك الرحلة التي استغرقت حوالي الأربع ساعات.
لم أتعظ من تلك الحكاية، بقيت أحمل الكتب معي في حلي وترحالي، كما لو أنها أطواق نجاة، وظلت تحتل الجزء الأكبر من حقيبتي، حتى أنعم الله علينا بالكتب الإلكترونية.
وما زلتُ أجرّب التجوّل في المنزل بعينين مغمضتين، وأحاول حفظ أماكن الأشياء في العتمة المطبقة، تحسّباً لعمًى متخيّل قادم، حتى وقد أنعم الله عليّ إلى يومنا هذا بنظر سليم لا أحتاج معه ولا حتى لنظارة قراءة.
هل قلت أن مهووسي القراءة يتربصون بأنفسهم الدوائر، ولا يصدقون كل هذه المتع المجانية؟!