خاص لـ هات بوست:
أعددت طعام اليوم، أضفت قليلاً من “جوزة الطيب”، قبل أن يصلني فيديو يرى فيه الشيخ أن جوزة الطيب مختلف عليها، والأقرب أن استخدامها غير جائز، كونها من المخدرات، وعلى المسلم الابتعاد عنها.
قد لا يكون الأمر ذو أهمية، لكنه قابل لحمل دلالات عديدة، أولها أن هناك من يسأل عن نوع من البهارات هل هو حرام أم حلال؟ لا يستطيع أن يحكم عقله في الموضوع، لا يعرف ما ينفعه وما يضره، يتصور الله تعالى كأنه يترقب خطواتنا ليعاقبنا بغية العقاب بحد ذاته، بغض النظر عن مدى الأذى الذي سببه فعلنا، تماماً (ولله المثل الأعلى) كالشرطة في بلادنا، ليس مستعداً للبحث عن فوائد وأضرار المادة المستخدمة، أو سؤال طبيبه فيما إذا كان يعاني من مرض ما، بل يلجأ لشيخ يقرر عنه شؤون حياته، والمشكلة هنا في السائل الذي يستدعي وجود المجيب.
في منحى آخر، نجد أن موضوع “جوزة الطيب” استوجب الاختلاف عليه، أي أنه من الأهمية بمكان بحيث فتح باب النقاش حول جواز أكلها من عدمه، وربما اجتمع السادة “العلماء” في مؤتمر خاص لبحث الأمر، وربما شكلوا لجنة خاصة بدراسة الكمية المسموحة والكمية غير المسموحة، وقس على ذلك أموراً لا تقل سخافة، لا سيما أن أحوال العالم اليوم ممتازة، لا حروب ولا أوبئة ولا تحديات مناخية ولا اقتصادية، لا أزمة لاجئين ولا بطالة ولا أناس تحت خط الفقر، ومن ثم في ظل كل تلك الظروف تصبح “جوزة الطيب” مدعاة استفهام.
أما الأهم من هذا كله فهو موضوع التحريم، ويجوز أو لا يجوز، وعودة سريعة لكتاب الله تبين لنا أن التحريم لله وحده، جل وعلا، حرّم علينا أموراً أبدية لا رجعة فيها، لا يحق لأحد أن يزيد عليها ولا ينقص منها، حتى النبي (ص) عاتبه الله تعالى حين حرّم على نفسه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم 1)، بينما في موضع آخر يحرّم الرسول الخبائث التي وردت في رسالته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (الأعراف 157) ولا يحرّم وفق أهوائه، بل ما جاء في رسالته من عند الله، فيما قوله تعالى واضح لا لبس فيه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس 59).والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أمام كم هائل من المحرمات التي تحيط بنا وتحول حياتنا إلى هوس بالمسموح والممنوع: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ؟ أما آن لكم أن تتنحوا جانباً وتتركوا الناس مع إله رحيم وضع لهم الخطوط العريضة ليتحركوا ضمنها بما يتناسب مع كل سكان الكوكب على مر الزمن؟
فإذا بحثنا عن محرمات الطعام في كتاب الله، وجدنا {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (المائدة 3)، لا أريد نقاش أسباب تحريمها، إيماني يحتم علي قبولها كما هي، لكن ليس من بينها جوزة الطيب، والمرجح أن من رأى “عدم جواز” أكلها للمسلم قد استند على حديث “ما أسكر كثيره فقليله حرام” وبموجبه يصبح استخدام المسكنات المعروفة التي يتناولها أغلب الناس حرام.
ورغم أني اتبعت نهج الشيخ وأعطيت الموضوع أكثر مما يستحق، إلا أنه توخياً للدقة واعتماداً على قوله تعالى {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان 59) فإن الأطباء والطهاة هم الخبراء هنا، ووفق معلوماتي المتواضعة في المجالين فإن استخدام “جوزة الطيب” يجب أن يكون بكميات ضئيلة جداً. لكن من المؤكد أن الأمر لا يتعلق بالحلال والحرام، ولا بشؤون الآخرة والجنة والنار، فالله رؤوف رحيم، ولعمري أنه انتقاص من عظمته إقحامه في كل شاردة وواردة، ناهيك عن الانتقاص من الإسلام كدين رحمة عالمي خاتم، محرماته تنطلق من الخير لنا ولغيرنا والعيش بسلام مع محيطنا.
هل لنا أن نتحرر من ضيق الفتاوى والالتفات نحو تقدم مجتمعاتنا وازدهارها؟