حبر وملح (لماذا لا يقرأ العرب؟)

آراء

لئن افترضنا القراءة باباً من أبواب النهوض والتقدّم. فإن السؤال الفوري هو لماذا لا يقرأ العرب؟

يعزفون عن القراءة فيما نتاجهم الإبداعي المكتوب حافل بكل ما يغري بالقراءة، ولغتهم واحدةٌ من أجمل لغات الدنيا لكنها مُهمَلة مرذولة كأنها تهمة أو جريرة. بَعضُ المجوَّفين فكرياً وروحياً لا يتوانى عن التباهي بعدم قراءة العربية(!) فهل صارت اللغة عالة على أهلها أم صاروا عالة عليها؟ العلّة ليست فيها حتى لو اعتلَّت بعض أحرفها، فما صرفُها ونحوها إلا بعض مكامن سحرها وجمالها لكن بعضهم لا يفقهون. نشدد على القراءة بلغتنا أولاً لأسباب كثيرة أتينا عليها في مقالات سابقة، لكننا نحثُّ على القراءة بكلِّ لغة متاحة.

لن نعيد مقولاتنا الدائمة بضرورة القراءة مع أن في الإعادة إفادة. التذكير بالبديهيات صار لازماً في مجتمعات مُصابة بألزهايمر معرفيٍّ يجعل شعوبها شبه غائبة أو مغيبة عن الوعي، منشغلةً بماضيها وتركته، منصرفةً عن مستقبلها وما تخفيه أيامها الآتية.

كيف تقرأ أُمَّةٌ ونسبةُ الأمية فيها تُقارب العشرين في المئة، فيما الأمية الثقافية تسود شرائح واسعة من المتعلمين، ناهيك بالأمية التكنولوجية والرقمية وسواها من مفردات العصر. يكاد العالم يُنهي ثورته الثالثة (المعلوماتية) فيما مناهج التعليم في معظم بلداننا تعود إلى ما قبل الألفية. مناهج متخلفة لا حياة فيها ولا نبض، لا تجديد ولا عصرنة ولا مَن يحزنون، أساليب تدريس رجعية تعتمد التلقين الببغائي عِوَض حثّ التلامذة على البحث والتفتيش وطرح الأسئلة واحترام علامات الاستفهام، مدارس حكومية معظمها غير مجهَّز بأدوات البحث ولا حتى (أحياناً) بأدوات الدرس. كلُّ هذا يجعل الكتاب قصاصاً لا متعة وعقاباً لا معرفة، فيما المدارس الخاصة ومعظمها تابع للإرساليات الأجنبية لا تولي اللغة العربية أدنى اهتمام.

القراءة ليست واجباً مدرسياً أو فرضاً يُجبَرُ المرء على تأديته لقاء علامة زائدة أو مكافأة. القراءة طقسٌ وحالة، مزاجٌ فكريٌّ وروحيٌّ يعتاده الإنسان كما تمارين رياضته الصباحية، روتينٌ مثمرٌ يبدأ في البيت ولا ينتهي في المدرسة أو الجامعة. فضلاً عن السلطات الحاكمة ثمة مثلَّثٌ يتحمَّل وِزرَ عدم التشجيع على القراءة: البيت والمدرسة والمجتمع. فإلى ضرورة تحديث المناهج وجعلها مرنة ومنفتحة على الجديد، ينبغي أن تكون حصة القراءة إلزامية وعلامتها مجزية لا باعتبارها فرضاً، بل لكونها لا تقلُّ أهميةً عن أي مادة أخرى.

يُقال العلِم في الصِّغر كالنقش في الحجر ومَن شبَّ على شيء شابَ عليه، لذا من المُلحّ تعويد الأطفال على القراءة، وإفهامهم أن الكتاب ضرورة لا مجرد ترف أو من الكماليات. كلما قرأتَ كتاباً فتحتَ باباً من أبواب الدنيا، وكلما تعرّفتَ إلى كاتب دخلتَ بستاناً أو حديقة. ولِمَن يقول بالرغيف قبل الكتاب: الكتابُ سبيلٌ إلى رغيفِ عيشٍ كريم. لكن المقولة بذاتها تقودنا إلى أهمية التنمية البشرية والاجتماعية المُستدَامة لرفع مستوى الوعي والثقافة، ما يجعل حاجتنا للكتاب في مرتبة الحاجة للرغيف.

مستويات القراءة تتراجع في العالم كله. قولٌ صحيحٌ في ظلِّ عولمة استهلاكية تطغى فيها قيمُ السوق، لكن مهما انخفضت تلك المستويات لا تصل إلى الحضيض الذي هي فيه عندنا. أما ذريعة الحروب والأزمات الطاحنة فالأولى أن تكون حافزاً للقراءة والبحث عن أمداءَ وآفاق للخلاص مما نحن فيه عِوَض جعلها مشجباً للكسل والبلادة وتفضيل النارجيلة على الكتاب.

الخُلاصة أن أُمَّة اقرأ لا تقرأ لأسباب كثيرة منها: عدم انتباه الأسرة إلى أهمية تعويد الأبناء وتشجيعهم على القراءة، مناهج تعليمٍ متخلفة تجعل الكتاب بعبعاً بدل جعله صديقاً، غياب البيئة الاجتماعية الحاضنة التي تُعلي شأن القارئ والقراءة، تلكؤ دور النشر عن الترويج للكتاب في عصرٍ سمته «الماركتينغ» والتسويق، إغفال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لكل ما له علاقة بالكتاب، حدّة الحروب والأزمات التي تجعل النجاة من سعيرها أولوية، عجز السلطات عن قيادة أي مشروع تنموي تنويري وكبتها لكل ما يجعل الفكر حراً طليقاً. فالقارئ ما لم يكن حراً لا يكون.

المصدر: صحيفة الحياة