د. عبد الحميد الأنصاري
د. عبد الحميد الأنصاري
كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي

حرية التعبير.. أم حرية الإساءة؟!

آراء

كنت وما زلت من المؤمنين بحرية التعبير، المدافعين عنها بقوة، ولكنني في الوقت نفسه أؤمن بأن لحرية التعبير حدوداً ينبغي عدم تجاوزها للإساءة أو الإضرار بالآخرين، ولذلك لا أجد أي مبرر لفعلة الصحيفة الأسبوعية الفرنسية الساخرة في إعادة نشر الرسم المسيء لمقام رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، والمستفز لأمة المليار ونصف المليار مسلم. لا أجد أي مبرر، لا منطقياً ولا مصلحياً ولا فلسفياً ولا حقوقياً، إلا تعمد الإساءة والإصرار على الخطأ وعدم احترام معتقدات الآخر. إنني إذ أدين الهجوم الإرهابي الغادر على هيئة تحرير الصحيفة، أدين -أيضاً- فعلتها المسيئة لأمة الإسلام، ولا يمكنني كما لا يمكن لأي عاقل أو ذي ضمير أن يقبل الإساءة أو يبررها. لقد دافع الرئيس الفرنسي عن الصحيفة -بطريق غير مباشر- بعد احتجاجات العالم الإسلامي على إعادة نشر الرسوم، مبرراً بأن «حرية التعبير» من «قيم فرنسا» وهو دفاع يضر بمصالح فرنسا في المنطقة، فضلاً عن أنه يناقض تصريحاته السابقة بأن حربه على الإرهاب لا على أي ديانة، كما يناهض سياسته في تعزيز «الوحدة الوطنية» بين مكونات المجتمع الفرنسي، إذ كيف تتحقق الوحدة والاندماج وهناك من يسخر من معتقدات (6) ملايين مسلم، يشكلون أحد مكونات المجتمع الفرنسي؟! ودافعت الصحيفة عن فعلتها على لسان أحد رساميها بأن الصحافة ينبغي ألا ترضخ للعنف، وأنه لا توجد قيود أو شروط لحرية التعبير! حسناً، على الصحافة ألا ترضخ للعنف، ولكن لماذا تجلب العنف على نفسها؟! ولماذا تغذي العنف والكراهية؟! ولماذا تستفز الآخرين؟!

لماذا تعمد تكرار الأخطاء القاتلة؟! لماذا لا تفيد من تجاربها السابقة؟! لماذا إغضاب مليار ونصف مليار إنسان؟! أما الزعم بأن «حرية التعبير» لا قيود عليها ولا شروط لها، فقول جانبه الصواب من (6) نواحٍ:

الأولى: أن الآباء المؤسسين للحريات ومنها حرية التعبير، قالوا إن: حريتك مشروطة بعدم الإضرار بالآخرين، وفلسفة الحضارة الغربية القائمة على «الحرية الفردية» ترجع في النهاية إلى ضابط قانوني صارم وهو عدم الإضرار بالغير.
الثانية: أن هناك فعلاً أكثر من قيد على حريات التعبير في فرنسا، فهل تجرؤ الصحيفة على نشر ما يشكك في المحرقة اليهودية؟! هل تستطيع ترويج رسوم تغذي التفرقة العنصرية أو تعزز معاداة السامية؟! هناك إذن في عقر دار «أم العلمانية» قيود وحدود ومحاذير وتابوهات! ولذلك يعجبني موقف وزير الخارجية الفنلندي الذي تساءل -طبقاً للدكتور أحمد عبدالملك- إذا سخرت من السود فإنها عنصرية، وإذا سخرت من اليهود فإنها معاداة للسامية، ولكن السخرية من الإسلام هي حرية تعبير!

الثالثة: من الذي يقول إن «حرية التعبير» لا حدود ولا قيود عليها؟!

إنهم المتطرفون «النازيون» في أوروبا، الكارهون للآخر، المحرضون على العنف، المستثمرون لمعاداة الأجانب واستفزازهم بهدف تخويف المجتمع الأوروبي من الإسلام وامتطاء موجة «الإسلاموفوبيا». ولا يوجد عاقل يقول إن الحريات لا حدود لها!

الرابعة: أن الغلو في «حرية التعبير» بما يؤدي إلى الإساءة والاستفزاز بذريعة أن الحرية لا قيود لها، هو نوع من «التطرف» المولّد للعنف، وهو لا يختلف عن «العنف الإرهابي» الذي استهدف الصحيفة، بل يعد نوعاً من جنسه.

الخامسة: أن «حريات الرأي» المكونة من: أن يكون الإنسان حراً في تكوين رأيه فلا يكون تبعاً لغيره، وأن يكون حراً في إبداء هذا الرأي، وأن يكون حراً في الطريقة التي يعلنها، إنما قصد بها، حماية هذه الحريات لضمان وجود مجتمع تحترم فيه القيم المختلفة لكافة مكونات المجتمع الواحد، وتبعاً لذلك، فإن المجتمع الذي يحترم قيمه، عليه -أيضاً- أن يحترم قيم المجتمعات الأخرى، لا أن يسخر منها ويسيء إليها. فإذا سمح المجتمع ودولته للرسوم والتعبيرات بأن تسيء لقيم الآخرين ومقدساتهم من دون «ضوابط» أو «حدود» فإن هذا المجتمع يفقد «تنوعه» و«تسامحه» لأن ما يسيء إلى الآخرين ويستفز مشاعرهم ويسخر من مقدساتهم، ليس جديراً بأن يدعى بـ«حرية التعبير» ولأن التعبير، حرية «مسؤولة» تتطلب وعياً وبصيرة فإنها تتطلب ممارسة في نطاق احترام التعددية والتعايش والحوار البنّاء بين أوروبا والمجتمعات الإسلامية -صحيفة «مينيتشي» اليابانية.

السادسة: أعلم أن «علمانية» فرنسا، متطرفة وغير متصالحة مع الأديان، بل معادية لها بسبب ردة الفعل التاريخية ضد «الكنيسة الكاثوليكية» وقمعها واستبدادها واضطهادها وقتلها لدعاة الحرية، ولكن كل ذلك أصبح في ذمة التاريخ، ولا يصلح مبرراً في عصرنا للتهكم على معتقدات الآخر.

السابعة: ليست من مصلحة فرنسا وهي اليوم أكثر انغماساً في شؤون المنطقة أن تؤلب الجماهير ضدها، فأمة المليار والنصف مسلم مهما كانت اختلافاتها إلا أنها متفقة جميعاً على الدفاع عن نبيها، عليه الصلاة والسلام، إلى درجة الموت في سبيله كما يقول الكاتب محمد المزيني.

المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=83225