لم تعد شكوك تحوم حول السبب الحقيقي لظهور وباء الإيدز، فقد تم إبطال فرضيات كثيرة حول كون مرض نقص المناعة عند البشر هو المسبب الوحيد لمرض «الإيدز»، حيث قام فريق دولي بدراسة علمية تختص بإعادة البحث في نشأة المرض ومسبباته.
الفرق بين نقص المناعة و«الإيدز»
نقص المناعة هو فيروس يهاجم الجهاز المناعي للإنسان، ومع الوقت يضعف هذا الجهاز في أداء وظيفته البيولوجية، المتمثلة في رد أي اعتداء جرثومي أو فيروسي عن جسم الإنسان، ما ينتج عنه تعرض الشخص المصاب لأمراض عدة. وإذا لم تتم السيطرة على الفيروس ووقف نموه، فإن الجهاز المناعي يصبح عاجزاً بشكل كامل عن الدفاع، وفي هذه المرحلة يعتبر الشخص المصاب مريضاً بـ«الإيدز»، فتظهر أمراض جانبية، غالباً تكون مسرطنة تؤدي في مجملها إلى الموت.
وفي سياق الدراسة، شهد عام 1981 أول منشور علمي يسلط الضوء على حالات لمرضى الإيدز، حيث تم تشخيص فيروس نقص المناعة المكتسبة من نوع «1»، وهو الأكثر انتشاراً في العالم. وكانت نقطة انطلاق الأبحاث حول المرض في إفريقيا الوسطى، وتحديداً في جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً، ومن المؤكد أن مرض نقص المناعة المكتسبة لدى الإنسان تطور بفعل فيروس لدى القردة، ثم انتقل إلى شخص ليخرج من محيط الغابة إلى مجتمع البشر.
وتكشف الدراسة أن بداية انتشار المرض كانت عام 1920، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبالتحديد في عاصمتها كينشاسا، حيث انتشر المرض ببطء عند ظهوره، ثم أخذ منحنى آخر لظروف وعادات متصلة بنمط الحياة.
قرود الغابة الحاضن الأول
نظريات النشأة
أثارت نظرية أن اللقاح الملوث منزوع من أنسجة حيوان مصاب، والتي صاغها الصحافي إدوارد هوبر، من تحقيق ميداني في الكونغو الديمقراطية، نقاشاً علمياً حاداً، إذ توصل إلى أن إصابة الإنسان بالمرض ترجع إلى لقاح ضد شلل الأطفال عن طريق البلع، لمخترعه الدكتور هيلاري كوبروزكي، حيث اتهم هوبر كوبروزكي بأنه قام بنسخ هذا اللقاح من أنسجة كلى قرد الشمبانزي حامل الفيروس، عن طريق الخطأ أثناء حملة التطعيم التجريبية، التي امتدت بين 1957 و1960، في جمهورية الكونغو.
وفي مواجهة بين هوبر وكوبروزكي في سبتمبر 2000، في أولى حلقات «أصول مرض الإيدز»، تبين من خلال دراسة أجراها الخبير ميكائيل وروبي، أن فيروس نقص المناعة كان في الواقع موجوداً، وأن هناك بعض المصابين به من سكان المنطقة قبل 30 سنة من ظهور لقاح شلل الأطفال المشتبه فيه، إضافة إلى عدم وجود أي أثر للفيروس في عينات اللقاحات المحفوظة بعناية في المختبر.
نظرية اختراع «الإيدز»
في سنة 1996، نشر أستاذ بيولوجيا الأنسجة، بيتر دويسبرغ، كتاباً بعنوان «كيف تم اختراع فيروس الإيدز»، يقول فيه «أعلنت بصوت عالٍ محذراً من أن الخطأ من الإنسان، لكن نظرية فيروس نقص المناعة المؤدي إلى الإيدز هو خطأ شيطاني بحت». وتلخص نظرية دويسبرغ في أن الإيدز ليس بمرض معدٍ ناتج عن فيروس أو جرثوم كلاسيكي.
لكن بعد سنوات من البحث العلمي في هذا المجال، وظهور أدلة جديدة عن أصول هذا المرض تراجع هذا الأخير عن نظريته، وبالفعل تم سحب كتابه كمصدر بحث علمي، واعتبر أنه ألحق الضرر بالصحة العامة.
وقام الفريق العلمي، في البداية، بتحليل التسلسل الجيني للمئات من عينات فيروس نقص المناعة المكتسبة، والتي تم جمعها في الكنغو، التي كانت مستعمرة بلجيكية في ذلك الوقت، وعدد من الدول المجاورة لها، وتم حفظ العينات في مختبر لوس ألاموس الوطني، في ولاية نيومكسيكو الأميركية، ما أتاح لهم دراسة بداية المرض، من حيث الزمن والطفرة الوراثية وربطه بمكان بدايات انتشار هذا الفيروس.
وبعد فترة، قام فريق العمل بمقارنة هذه التحليلات المخبرية مع الممارسات اليومية لسكان هذه المناطق، وذلك من أجل فهم الظروف التي ساعدت الفيروس على الانتشار، إلى أن تم الإعلان عنه كوباء.
تقول ماترين بيترس، المتخصصة في علم الفيروسات، والتي تعمل ضمن فريق الباحثين من الأوروبيين والأميركيين، لجريدة «لوموند» الفرنسية: «باختصار مهامنا البحثية تكمن في فك لغز فيروس نقص المناعة، أين ومتى وكيف انتقل من الحيوان إلى الإنسان»، وتضيف «أن انتقال الفيروس من القرد إلى الإنسان كان بشكل متكرر من دون أن يشكل حالة وباء، وكان الفيروس منحصراً في الغابة، لكن الفيروس أخذ منحى آخر متمثلاً في عدوى بدأت بالانتشار خارج محيط النشأة (الغابة)، نظراً لوجود العديد من الظروف ساعدته على ذلك.
السكك الحديدية تنشر الفيروس
وتشير الأبحاث إلى أن أصل الفيروس كان يحمله قرد من نوع الشمبانزي في جنوب الكاميرون، وفي سنة 1920 أصيب شخص بالفيروس، من خلال أكل لحم القرد المصاب أو عن طريق جرح أصيب به أثناء الصيد، وسافر هذا الشخص إلى عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية، لتشكل هذه الدولة في ما بعد مهد الوباء.
كما يكشف تحليل وثائق الأرشيف الاستعماري أنه كانت هناك حركة كبيرة في التبادلات التجارية، لاسيما العاج والمطاط بواسطة السفن، وهو ما ساعد بشكل كبير على انتشار فيروس نقص المناعة.
وعرفت الفترة الممتدة بين عامي 1920 و1950 نهضة حضارية متسارعة في مجال النقل خصوصاً القطارات، وذلك لارتباطها بتطور صناعة المناجم في المنطقة ككل، ما سهل انتقال عدوى الفيروس من العاصمة كينشاسا إلى برازافيل، عاصمة جمهورية الكونغو، المستعمرة الفرنسية السابقة التي تبعد ستة كيلومترات منها في الجهة المقابلة من نهر الكونغو.
وخلال الفترة نفسه أصبح الفيروس ينتشر في أكبر المدن من حيث عدد السكان، علماً بأن ما يقرب من 300 ألف شخص كانوا يستعملون القطار لتنقلهم عام 1922، إذ كان خط السكة الحديدية يقطع البلاد من الغرب إلى الجنوب الشرقي، ليرتفع عدد ركاب القطارات إلى أكثر من مليون شخص عام 1948.
وساعدت الأنشطة البشرية غير المراقبة من طرف أجهزة الدولة، لاسيما الهجرة السرية، في تفشي الانحلال الأخلاقي، وعدم تعقيم الأجهزة الطبية، كل ذلك ساعد على ارتفاع وتيرة انتشار الفيروس.
انتقال الفيروس إلى العالم
ويفسر وجود جالية من هايتي من أجل العمل في كينشاسا، بعد استقلال الكونغو الديمقراطية عام 1959، نقل بعضهم الفيروس إلى بلدهم لدى عودتهم، ثم من هذا البلد انتقل الفيروس إلى الولايات المتحدة عام 1964.
وفي تلك الفترة، انتشر الفيروس في بلدان أخرى من إفريقيا، حيث بلغ عدد المصابين بالعدوى عام 2014 حول العالم 75 مليون شخص، فيما أدى إلى وفاة 36 مليون شخص منذ بداية انتشاره.
تجدر الإشارة إلى أنه تم الإعلان عن أن فيروس نقص المناعة المكتسبة كوباء، جاء بعد 60 سنة من ظهور أول حالة إصابة، فيما يعتبر الفيروس مقارنة بالفيروسات الأخرى، مثل «إيبولا»، أقل حدة في الانتشار.
المصدر: الإمارات اليوم