كاتب إماراتي
إن سألتَ أحدهم: «هل تعرف ابن رشد؟»، فسيرد غالباً بالإيجاب والإطراء، لكن إن سألته عما قدّم ابن رشد للحضارة الإنسانية، فإنه لن يستطيع أن يُجيب. «هل يجب أن نَعرِف ماذا قال وقدّم ابن رُشد، أو ابن سينا، أو ديكارت؟».. قد يتساءل البعض، ولكي أجيب عن هذا السؤال، أحتاجُ أن أخبركم – باقتضاب سريع – عن مراتب الإدراك عند الإنسان، أعلى تلك المراتب السّت هو اليقين، الذي يعني إدراك الأمر على ما هو عليه إدراكاً جازماً، وأدناها هو الجهل المُركَّب، الذي يعني إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه إدراكاً جازماً. كأن تسأل أحدهم إن كان أكل الحلوى مفيداً للصحة؟ فيقول لك إنه مفيد ويمنحك قوة في البدن. تسأله إن كان مُتيقّناً، فيقول نعم. إن جواب صاحبك هذا جهل مركّب من شيئين: الأول أنه يعتقد جازماً أنه يعرف، والثاني أن اعتقاده خاطئ، فهو لا يدري أنه لا يدري، لكنه يعتقد أنه يدري.
سيتساءل أحدكم الآن: وما دخل هذا المثال في ابن سينا وابن رشد؟ لولا أعمال الفلاسفة عبر التاريخ، لما تمكنّ الإنسان من وضع أُسس منطقية للتفكير، ولولا تلك الأُسس، لما توصّل غاليليو، وقبله كوبرنيكس إلى حقيقة أن الأرض ليست محور الكون. ولما تمكن ابن النفيس من اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، ولما استطاع آينشتاين فكّ بعض أسرار الكون. فكل اختراع، وكل معادلة رياضية، وكل اكتشاف علمي، يبدأ أولاً بطريقة التفكير الصحيحة.
في بدايات القرن العشرين، أراد الفيلسوف والرياضي الإنجليزي برتراند راسل، وأستاذه ألفريد وايتهيد، أن يضعا أُسساً منطقية لمعرفة لماذا (2=1+1)، وقضيا سنوات عدة، لكتابة ثلاثة مجلدات من كتابهما الشهير «مبادئ الرياضيات»، لمحاولة تحقيق ذلك الحلم العلمي الكبير. قد يقرأ شخص هذه الأسطر ويضحك ويقول في نفسه: «لماذا أضاعا سنوات من عمرهما لإثبات شيء بديهي؟»، والجواب هو أنه لا يوجد شيء بديهي، فكل شيء في الحياة خاضع لتصورات الإنسان، وكلّما ارتفع الوعي، ارتفع إدراكنا للحقائق، واستطعنا أن نفهم الدورة الدموية، والكهرباء، والجاذبية، وغيرها من الأشياء التي لم تَعْلَم البشرية يوماً ما أنها موجودة أصلاً.
إن مشروع حياتي هو أن أُسهم بشيء قليل في مهمة استعادة الوعي إلى العقل المسلم، الذي سلّم أمره منذ سنوات طويلة للآخرين يركلونه في ملعب الجهل، ويُدحرجونه بين الخُرافات، ليفوزوا بعواطف الجماهير، وتبعيتهم العمياء.
وفي هذه الرحلة الطويلة، بدأتُ منذ سنوات مشروعاً إعلامياً لإثراء القنوات العربية ببرامج تنويرية، غزيرة المحتوى، سهلة الهضم، وجميلة الصورة تجذب المشاهدين. فكان برنامجي العلمي «لحظة» الذي كنتُ – ومازلتُ – أتحدث فيه عن آخر الاختراعات التقنية والكشوفات العلمية. واليوم، يُسعدني أن أُطِلَّ على المشاهد ببرنامجي الجديد «حكاية التنوير»، الذي أستعرضُ في كل جزء منه مرحلة من مراحل التنوير الإنساني، منذ بدء الحضارات حتى اليوم. أنا لا أسعى إلى استعادة الماضي، بل لنفهم منه أسس نشأة الحضارات وارتقاء الأمم. فالمعرفة الإنسانية تراكمية، والإلهام مُعدٍ، وبهما نستطيع أن ننتقل من مناقشة فتاوى الصيام وتفسير الأحلام، إلى الحديث عن الوصول إلى المريخ، والقضاء على السرطان.
«حكاية التنوير» مشروع طويل، سيستمر لسنوات إن شاء الله، تبنّتْهُ قناة أبوظبي بكل محبة وحماسة، وأرجو أن يكون شُعلة بسيطة، تُخْبِرُ عن شروق جديد.
يقول الفيلسوف إيمانويل كانط: «التنوير هو تَحَرُّر الإنسان مِن قصوره الذي نشأ بسبب عجزه عن استخدام عقله، إلا بتوجيه من إنسان آخر (…)، كُن شجاعاً واستخدم عقلك بنفسك».
المصدر: الإمارات اليوم