حكاية معرض

آراء

لا أنتظر من الكلمات أن تكون مطواعةً عندما يتعلّق الأمر بكمّ المشاعر والحنين ودفق الذكريات التي يأتي بها مجرّد ذكر معرض الشارقة الدولي للكتاب؛ ذكرياتٌ لها لونٌ برتقاليٌّ وهاج، تختلط فيها رائحة الكتب بالقهوة وحلوى غزل البنات، وضحكاتٌ وضجيجُ أطفالٍ يحتضنون كتابهم الأوّل، وزحامٌ محبّبٌ لثقافاتٍ ولغاتٍ ولهجاتٍ وسُحناتٍ يجمعها حبّ الحرف والكلمة والكتاب.

المعرض الذي ارتبط في ذهني برحلاتٍ مدرسيّةٍ إلى الإمارة الباسمة، تستقبلنا عبارتها: «ابتسم، أنت في الشارقة». يعلو قلبي ويهوي مع منحنيات جسورها، مشهد الزخارف الزرقاء في السوق الإسلامي، وروحانية منارات المساجد الوضّاءة، وخُضرة المنتزَه البهيج، ومياه الخليج الصافية التي تُكمل جلال اللوحة.

هو كلّ هذا وأكثر؛ فحتى وإن كان في بدايات الثمانينات مجرّد قاعةٍ ضمّت عددًا محدودًا من دور النشر، فقد كان من الواضح والجليّ أنّه مشروعٌ مكتمل الأركان، وُجد ليبقى ولينمو، وليحقّق أهداف ورؤى سموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي قالها واضحة:
«الثقافة هي الأساس في بناء الحوار الإنساني، وخلق التفاهم والوئام بين شعوب العالم كافّة، بغضّ النظر عن العِرق أو الدّين أو الجغرافيا».

وها هو اليوم أحد أكبر ثلاثة معارض للكتاب على مستوى العالم، بمشاركة آلاف الناشرين من أكثر من مئة دولة، وبملايين الكتب والعناوين بلغاتٍ تتجاوز حدود الخريطة.
لكن القيمة الأجمل لا تُقاس بالأرقام وحدها، بل بما يتركه هذا الحدث من أثرٍ إنسانيٍّ ومعرفيٍّ عميق، ففي كلّ دورة، تعود الشارقة لتذكّر العالم بأنّ الثقافة ليست ترفًا، وأنّ القراءة ليست عادةً نخبويّة، بل فعل بقاء.

وكم نحن في دولة الإمارات محظوظون بحاكمِ إمارةٍ وعضوِ مجلسِ أعلى للاتحاد، هو كاتبٌ وأديبٌ ومؤرّخٌ وناشر؛ نقرأ أعماله ونناقشها ونستلهم منها تراثنا وهويّتنا الراسخة. إنّها حالةٌ فريدةٌ نعيشها، ويكتمل بها عقد الاتحاد الفريد.

لا عجب إذن أن تتوالى على الإمارة المشرقة وبجدارة، ألقابٌ عالميّة؛ كعاصمةٍ للثقافة العربيّة، وعاصمةٍ للثقافة الإسلاميّة، وتتوجها اليونسكو عام 2019 عاصمةً عالميّةً للكتاب، وهو اللقب الذي يشبهها إلى حدٍّ لا يُصدَّق، تتويجًا لجهودها الحثيثة ومسيرتها في دعم مجالي الكتب والثقافة، ونتيجةً لبرامجها المبتكرة في تشجيع القراءة وإنتاج جيلٍ قارئ، ناهيك عن مبادراتها الثقافية الكبرى.
فهيئة الشارقة للكتاب هي التي تنظّم معرض الشارقة الدولي للكتاب ومهرجان الشارقة القرائي للطفل ومؤتمر الناشرين الدوليين.

وهناك بيت الحكمة كتحفةٍ معماريّةٍ معاصرةٍ ومنارةٍ للنور والمعرفة، يضمّ مكتبةً ضخمة، ومساحاتٍ للبحث والتأمّل، ومناطقَ مخصّصةً للقراءة العامّة والورش والدورات، وغيرها الكثير من الشواهد الثقافية والفنية الشامخة.

أتراني أجافي الحياد إذ أعمّم خصال صديقاتٍ مثقفاتٍ شغوفاتٍ بالقراءة والمعرفة والبحث جمعتني بهنّ الإمارة الباسمة على باقي أهلها؟
لندع الخير يعمّ ولو لمرةٍ واحدة!

يحتفي معرض الشارقة الدولي للكتاب في نسخته الرابعة والأربعين هذا العام باليونان ضيفَ شرفٍ، ويقدّم كعادته فعالياتٍ أدبيّةً وفنيّةً وإبداعيّةً وثقافيّةً، وحفلاتِ توقيعٍ، وجلساتٍ حواريّةً وورشًا تفاعليّة، ويضمّ بين جنباته أكثر من 250 مفكّرًا وأديبًا ومبدعًا…
تظاهرةٌ ثقافيّةٌ بهية تعدنا بالدهشة في أرقى معانيها وأزهى حُلَلها.