كاتب وإعلامي سعودي
في كل عام، وقبل شهر رمضان المبارك، تنظم حملات إعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو إلى مقاطعة محطات تلفزيونية بذاتها؛ بدعوى أن تلك المحطات تدعو إلى نشر الرذيلة والفسق والفجور، وهي -على فكرة- قنوات سعودية خاصة، ذات شعبية طاغية في المجتمع السعودي والخليجي، فكيف بمثل هذه الدعاوى أن تكون صادقةً ودقيقةً؟! وهذه المجتمعات العربية محافظةً جداً على الأقل بالظاهر، والدليل على شعبية تلك القنوات، هو وجود الإعلان وبكثرة من الشركات المحلية، وهؤلاء لا يرمون أموالهم بتلك العفوية، فهم يعرفون أن تلك القنوات لديها نسبة مشاهدة مرتفعة في الأسواق التي يستهدفونها، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن بعض الدعاة الذين يهاجمون تلك القنوات ليست دوافعهم بريئة، فقد تكون شخصيةً بحتة، فبعضهم بالمناسبة يظهر في برامج دعوية في قنوات لا تختلف كثيراً عن القنوات التي يدعون إلى مقاطعتها.
ليس هناك مبدأ واضح لديهم في هذه الادعاءات، فإما أن يتركوها كلها أو يقاطعوها كلياً إذا كانوا بالفعل صادقين، ولكن بعضهم يلعبون على وتر المحافظة على المجتمع وأنه معرض للرذيلة، وهذه قضية لا يمكن التساهل بها.
الغريب أن من يشنون الحملات على بعض تلك القنوات في كل عام يستندون إلى دراسات وأبحاث تعزز وجهات نظرهم، بل إن بعضهم -كما صرحوا- لا يحتاج إلى مثل هذه الدراسات، فالحالة ظاهرة وواضحة، مثل هذه التناقضات تكشف تناقضات نعيشها في مجتمعنا، فكثير من المبادئ تُكسر إذا كان هناك مصلحةً لهذا الفريق أو ذاك، فكلنا يتذكر مثلاً حالات لمن كانوا يدْعون إلى تحريم الاختلاط، ونتفاجأ بوجودهم وصورهم المنتشرة في وسائل الإعلام، وهم يحضرون المؤتمرات والندوات، والمرأة حاضرة معهم هناك، بل إن بعضهم تجده جالساً على الطاولة نفسها مع نساء، هذه الممارسات تكشف أن لا مبادئ ملتزم بها، ولكنها تُستخدم عندما تمس المصالح الشخصية للأسف.
القنوات المستهدفة بحملات المقاطعة في اعتقادي ستكون ممتنة لمن يقومون بذلك، فهم بهجومهم عليها يقدمون خدمة دعائية ضخمة ومجانية كل عام وفي مثل هذه المناسبات، ولا أبالغ أن يكون أصحاب تلك المحطات يرقصون ويهللون من الفرح، كلما بدأت حملة لمقاطعة قنواتهم، فهم يعرفون وبدقة أن شعبية قنواتهم وبرامجها في ازدياد كل عام.
في اعتقادي أن الدعوة إلى المقاطعة لأي منتج فكري، سواء أكان كتاباً أم فيلماً أم محطة تلفزيونية؛ يحمل أصحاب ذلك التوجه نوعاً «ما» من الفكر الشمولي، الذي لا يرضى بالآخَر المختلف عنه، وقد يستخدم خطاباً دينياً أو وطنياً للإقصاء، وأنا هنا أتحدث في قضايا مختلف عليها، أما القضايا المجمع عليها فلا مجال لمناقشتها أصلاً، وقد تستخدم بعض التيارات الفكرية مثل هذه الدعوات وهذه الأساليب واللعب على الوتر الديني؛ لتحقيق مصالح ضيقة سياسية أو اجتماعية للفريق الذي تنتمي إليه.
إن حق الاختيار لما نقرأ أو نشاهد أو نسمع يجب أن يُحترم، وألا يُقحم في مثل هذه السجال، فالمشاهد هو من يفضل أي قناة تناسب ذوقه وتناقش همومه وتلبي حاجاته، فالتنوع الإعلامي هو مبدأ سادَ في كل المجتمعات، وعصر الوصاية الفكرية ولَّى إلى غير رجعة، فمتى نفهم ذلك؟
المصدر: الحياة