جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

خداع الذات: وهم التطهير النفسي

آراء

خاص لـ هات_بوست:

     كم مرة صدّقنا كذبة صنعناها بأيدينا؟ لا أبالغ إن قلت إن الحقيقة كانت دائمًا أقسى من أن نحتملها. لنتفق: نحن لا نخدع الآخرين بقدر ما نخدع ذواتنا، كلما حاولنا إنقاذ صورتنا الداخلية من الانكسار. الأمر ليس أننا أشرار. ببساطة، نحن نخاف المرآة. يصبح الوهم هنا ملاذاً مؤقتاً، نوعاً من الهدنة مع قسوة الوعي وعبء الاختيار. وكما قيل، “إننا لسنا ما نقول بل نحن ما نفعل.” – جان بول سارتر كان محقاً في ثقل هذه الكلمات.

نحن نصنع سرديات صغيرة، ونصدقها حرفيًا، فقط لأن العقل لا يطيق التناقض بين ما نفعله وما نؤمن به. هذه هي “التنافر المعرفي” الذي يتحدث عنه علماء النفس، ذلك الشعور المزعج الذي يضربنا حين نعيش بطريقة تخالف قناعاتنا الجوهرية. ولكي نوقف هذا الصداع، يخلق الإنسان غطاءً نفسياً خفيفاً، يبرر به تصرفاته. يعيد كتابة القصة بالكامل ليبدو فيها بطلاً مضطراً، لا شخصاً خان نفسه. أتذكر كم مرة قلت لنفسي: “الظروف دفعتني، لم أكن أريد جرحه.” لكنني أعرف، في مكان ما في قرارة نفسي المظلمة، أنني اخترت الصمت. هذا الغطاء يحمي النظام الداخلي من الانهيار، ويسمح لنا بالنوم، لكنه يضعنا في حرب صامتة مع الشاهد الوحيد الذي يعرف الحقيقة: الوعي.

الاعتراف بالخطأ، يا صديقي، يعني مواجهة المسؤولية الكاملة عن كل اختياراتنا. نحن نهرب من هذا العبء الوجودي، نهرب من ثقل حريتنا حين نختبئ خلف الأكاذيب التبريرية الصغيرة. هذا الوهم ليس مجرد ضعف نفسي، بل هو تهرّب فلسفي ماكر من عواقب الحياة.

لكن لحظة… ربما نحن لا نكذب على أنفسنا خوفاً من الحقيقة، بل ربما نكذب رحمةً بأنفسنا. نخسر شيئاً، فنبتسم ونحوّل الخسارة إلى “درس”، ونحول الفشل إلى “تجربة” عميقة. نفقد صديقاً فنقول: “كان يجب أن يحدث هذا، إنه لم يكن مناسباً لي.” نعم، التبرير ليس خيانة دائمًا، إنه قد يكون طريقتنا الداخلية غير الكاملة لتخفيف وجع التنازلات المستمرة في هذه الحياة القاسية.

هل نحن متناقضون لهذا الحد؟ نعم، نحن كذلك. نقدم تنازلات مهولة على حساب راحتنا، صحتنا، وقيمنا أحيانًا، لمصالح مادية أو اجتماعية. ثم نحاول دفن ذلك الشعور بالرخص الذي يلاحقنا كظل. نتعود على البلادة الشعورية أمام أخطائنا، وننام على أكاذيبنا الصغيرة. حتى تأتي اللحظة، وتأتي دائمًا حين نكون وحدنا، لحظة تنهار فيها كل الجدران المصنوعة من الورق المقوى. نوبة بكاء مفاجئة، حزن لا نفهم مصدره، يكشف أن شيئاً في الداخل ما زال حياً، ما زال يقاوم. نريد أن نغير هذا الطبع البشري القديم، طبع التبريرات اللانهائية، لكن حاجتنا للبقاء، حاجتنا للقبول والاستمرار، تغلبنا. في كل مرة.

ومهما حاولنا تأجيل الحساب، سيأتي اليوم الذي تسقط فيه الرواية التي قضينا العمر نصنعها. لحظة يدرك فيها الإنسان أن هذا الوهم، الذي كان يحميه، هو سجنه الحقيقي أيضًا.

الحقيقة؟ تلك اللحظة موجعة. مؤلمة جداً.

لكن الحرية الحقيقية تبدأ هنا بالضبط. تبدأ حين نجرؤ على النظر إلى ضعفنا بلا خوف، ونقول لأنفسنا بصدق مؤلم: “نعم، أخطأت، وهذه مسؤوليتي.” تلك اللحظة ليست هزيمة، بل هي ولادة قاسية للذات الحقيقية. فالتطهير النفسي الحقيقي لا يأتي أبدًا من تبرير الألم، بل من المواجهة الشفافة له. والحقيقة التي نغطيها، مهما كانت قاسية، تظل الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن نقف عليها دون أن نخاف السقوط.

نحن نُحاسب أنفسنا كثيراً على شكلنا في عيون الآخرين. ننسى أن نحاسب أنفسنا على ما ينحته هذا الوهم في دواخلنا. نبني صورة خارجية جميلة للآخرين، ونهمل تماماً الصورة التي نراها حين نغلق الباب ونبقى وحدنا. ومع الوقت، وحين تتراكم الأوهام وتتضخم المسافة بين ما نبدو عليه وما نحن عليه حقاً، نفقد الآخرين… لكن المأساة الحقيقية أننا نفقد دواخلنا.