رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
عندما قررت مجلة الـ«نيوزويك» العريقة مطلع هذا العام إيقاف نسختها الورقية، بعد أكثر من ثمانين عاما على صدورها، صاحوا: ألم نقل لكم الصحافة الورقية تموت رويدا رويدا؟ إنها في الرمق الأخير من حياتها؟ لا يلامون فقد رأوا في وفاة الـ«نيوزويك» ضربة للنشر التقليدي. واستمر «اللطم»، إذا صح التعبير، بانتظار جنازة الصحف والمجلات المطبوعة. هناك من يتنبأ، وهناك من يتكهن، وهناك تابعون لا يقرأون الصحف أصلا ومع ذلك يتوقعون، ونوع رابع يرى الصحافة الورقية مرتبطة بشكل أو آخر بالحكومات، لذلك لا بأس من الانضمام لهذه الحفلة الصاخبة وتمني وفاة صاحبة «الحكومة». وعلى هذا المنوال جاء الدور مؤخرا على الصحافة الإلكترونية، فبعد أن كانت هي البعبع الذي يخوفون به الصحافة الورقية غدت هي الضحية، أما البعبع الحاضر بقوة هذه الأيام فهو: مواقع التواصل الاجتماعي.الكذبة الكبرى، بل لنقل النكتة الكبرى، القول إن مواقع التواصل الاجتماعي سحبت البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام. ولو سأل أحد ممن تلقفوا هذه الكذبة، واقتنعوا بها، وتناقلوها، وروجوا لها، سؤالا بسيطا: ما الذي تعتمد عليه هذه المواقع الاجتماعية؟ لعرفوا على الفور أنها في أساسها، وسيلة لنقل الخبر، ولم تكن، إلا نادرا، مصدرا للخبر ذاته. فالغالبية العظمى من النقاشات اليومية في موقع شهير مثل «تويتر»، يكون مصدرها الصحف الورقية ومواقعها الإلكترونية والتلفزيون والإذاعة، باعتبارهم يملكون المصداقية والمحتوى، ولولا وسائل الإعلام هذه لما ناقش المغردون قضاياهم كل يوم، ولما تبارزوا في إنشاء «الهاش تاغ» تلو «الهاش تاغ».
وبدلا من تكرار المقولة المملة، بأن الراديو لم يلغ الكتاب، والتلفزيون لم يلغ الراديو، وعلى هذا السياق لم يلغ الإعلام الإلكتروني الصحافة الورقية، ولكن علينا الاعتراف بأن الصحافة الورقية ليست محصنة من أي تغييرات هيكلية في صناعتها خلال السنوات المقبلة. لا أحد يعرف متى يتم هذا، بعد خمسة أعوام أو عشرة أو عشرين، الثورة التقنية قادمة لا محالة.
لا يعلم أحد حتى هذه اللحظة كيف سنقرأ الصحف في العقد القادم. هل بالورق ذاته؟ أم على الـ«آي باد»؟ أو في قطعة ورقية صغيرة مطوية في جيوبنا، نفتحها حتى تغدو بحجم صحيفة وتحدث نفسها يوميا، ثم نعود لنطويها من جديد؟ إلا أن هذه الثورة التي نتخيلها، لن تستغني، أبدا، عن المحتوى الذي تصنعه الصحف حاليا. يبقى السؤال محيرا: هل الصحف الورقية، ومواقعها الإلكترونية، في مأمن من الخطر؟
لو أجاب أحد بـ«لا» لكانت كذبة كبرى كالكذبة السابقة. إن الخطر يتعاظم يوما بعد الآخر، وبعد أن كانت الصحف تمارس الغرور المصطنع، صارت تدلل قارئها من أجل الاستمرار في اقتناء صحيفته المفضلة، وهنا ليس أمام الصحف من خيار إلا توسيع قاعدة إيصال المحتوى الذي تصنعه.
أما بالنسبة لي كرئيس تحرير فيمكنني القول: أمطري حيث شأت فإن خراجك سيأتيني. إن اقتنى القارئ النسخة الورقية فما أجمل ذلك، وإن أراد قراءتها كما هي على الـ«آي باد» فله ذلك، وإن أراد الدخول على الموقع الإلكتروني المحدث بشكل لحظي، فذلك من دواعي سروري وغبطتي… وحتى لو دار بين دهاليز «تويتر» وضواحي الـ«فيس بوك» فلن تغيب عنه الصحيفة إطلاقا، بل سيجد أمامه كل المحتوى الورقي والإلكتروني في صيغة روابط إخبارية تنقله بسرعة البرق.
في نهاية اليوم ستكون الصحيفة انتشرت بشكل لم تكن تحلم به لو لم يكن هناك هذا الفضاء الإلكتروني. ولكن لننتبه جيدا، فالعكس هنا غير صحيح، بمعنى لو وجد هذا الفضاء الإلكتروني بوسائل تواصله الاجتماعي التي لا تملك محتوى متميزا، فلن ينتشر فيه سوى قصص مفبركة، وشتائم مؤذية، وتكهنات سمجة، بجانب ترويج لأخبار مزيفة وتحريض رخيص لا يمكن للمستخدم الوثوق بها، طالما لم يكن المصدر وسيلة إعلامية رصينة. وهنا نعود للسطر الأول: وسائل الإعلام هي من يملك هذا المحتوى.
غير أن التحدي الأكبر، لكي تبقى الصحافة الإلكترونية تتنفس لأطول فترة ممكنة، يكمن في تميز محتواها الخبري. لكن كيف يتم ذلك؟
لقد اعتمدت الصحافة الورقية عقودا على خبر الأمس، نقلا عن وكالات الأنباء العالمية والمحلية، ثم عاشت لعقود أخرى في تغطياتها لمناسبات ومؤتمرات وأحداث جرت أيضا في اليوم الذي يسبق طباعة الصحيفة، وهذا أمر لم يعد يغني من جوع القراء الذين يصلهم جميع ما سبق في اللحظة التي يصدر بها.
الرئة الوحيدة التي يمكن أن تتنفس بها الصحافة، الورقية منها والإلكترونية، هي السبق الصحافي فقط لا غير، نعم لا يمكن لأي صحيفة في العالم أن تكون كل أخبارها خاصة لها وحدها، إلا أن الصحيفة التي لا ترفع هذه النسبة بشكل متواصل، ستكون أول السائرين إلى مقبرة الصحف، ومن تريد أن تحافظ على مقروءيتها أيا كانت الوسيلة، فليس من خيار إلا مفاجأة قارئها صباح كل يوم بتقاريرها وأخبارها وتحليلاتها وقصصها الخاصة، بحيث لا يجدها المتلقي إلا في صحيفته فقط. تتقدم التقنية وتتسيد. يمرض الـ«فيس بوك» ويستبد «تويتر». يتنافس العالم على تطبيقات ليس لها مثيل. ومع كل ذلك، يظل المحتوى هو الثابت والوسيلة متغيرة. وحده المحتوى المتميز يرفع صحف لا عماد لها.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط