دخلت تركيا مع المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز الجاري مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، لا تشبه أياً من المراحل التي كانت تعقب الانقلابات العسكرية السابقة.
فللمرة الأولى تفشل محاولة انقلابية في بلد الانقلابات العسكرية. وللمرة الأولى يحدث انقلاب عسكري في عهد حزب العدالة والتنمية بعدما كاد الحديث عنها يصبح من الماضي. لماذا حصل الانقلاب؟ ولماذا فشل؟ وما هي التداعيات المستقبلية في الداخل والخارج؟
تعد تركيا أول بلد علماني في العالم الإسلامي بعدما اعتمدها أتاتورك رسمياً في الثلاثينات في إطار حملة التغريب والتحديث التي انتهجها بعد عام 1923. ورغم أن العلمانية لم تطبق بطريقة سليمة، لكنها نجحت في خلق جيل بكامله يدافع عنها. وكان مركز القوة للعلمنة المؤسسة العسكرية، باعتبار أنها كان لها الدور الأساسي لتحرير تركيا، وتوحيدها بعد الحرب العالمية الأولى.
ونتيجة لذلك منح الجيش صلاحيات واسعة نص عليها الدستور، كما القوانين، بحيث أنيطت به صلاحية الدفاع وبالقوة العسكرية، عند الضرورة، عن الجمهورية والعلمانية في حال رأى أنها تتعرض للخطر. ولذا كانت كل الانقلابات العسكرية تعتبر شرعية وفق الدستور والقوانين. وفي الحالة التركية دائماً كان ينظر إلى الحركات الإسلامية واليسارية، ولاسيما الشيوعية، بأنها الخطر الأول والأكبر على الدولة والجمهورية.
الخرق الذي حدث في هذه المسألة كان في عهد حزب العدالة والتنمية، عندما نجح الحزب في تهيئة الظروف المناسبة لتعديل الدستور في عام 2010 في استفتاء شعبي أعقبته تعديلات في القوانين، بحيث ألغى المادة التي تنص على أن مهامه حماية العلمنة في قانون المهام الداخلية للجيش، كما عدل من مهام الجيش بحيث تقتصر على حماية البلاد من الأخطار الخارجية.
وأكثر من ذلك، فقد سمحت التعديلات الدستورية بمحاكمة الجنرالات أمام محاكم مدنية في القضايا غير العسكرية. ما فتح الباب أمام محاكمة عدد كبير من الجنرالات بتهم إطاحة الحكومة، فكانت المحاكمات الشهيرة بما سمي قضية «أرغينيكون»، والزج بالعشرات من الجنرالات في السجن.
وتحولت العلمنة في تركيا إلى العقيدة المركزية للجيش. ورغم التعيينات التي أخذت في الاعتبار موالاة القادة الجدد للجيش لرئيس الحكومة سابقاً، والجمهورية حالياً، رجب طيب أردوغان، فإن النهج الذي اتبعه أردوغان من أجل تعزيز الجرعة الإسلامية في الدولة والنظام التعليمي، كما في السياسة الخارجية، أثار حساسية داخل المؤسسة العسكرية، بحيث إن التيار الكمالي المتشدد داخل الجيش كان لا يبدي ارتياحه لذلك.
لكن الاعتقاد كان أن عهد الانقلابات العسكرية، بعد التعديلات الدستورية وتغيير القيادة، قد ولى.
ولا يقتصر الأمر على الانزعاج العسكري من التوجهات الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، بل إن الجيش الذي يعتبر تاريخياً على علاقة جيدة مع «البنتاغون»، كان يأخذ في الاعتبار القلق الأمريكي من سياسات أردوغان الإسلامية في الخارج، في ما عرف بالعثمانية الجديدة، ورغبته في تنصيب نفسه زعيماً للعالم الإسلامي. وهذا التطلع كان يسبب القلق لواشنطن، لأنه يعيد خلط الحسابات الغربية في المنطقة لغير المصالح الأمريكية. فواشنطن تدعم الدول بقدر ما تخدم مصالحها، وليس التمرد عليها، أو تخطي الحدود المرسومة.
وبالتالي، فإن عوامل اللجوء إلى التمرد العسكري على السلطة القائمة متعددة داخلية وخارجية، وكان العسكر ينتظر اللحظة التي يراها مناسبة للقيام بانقلابه.
لكن الانقلاب كان يحمل في الوقت نفسه بذور فشله، بحيث يمكن القول إنه لم يشبه أياً من الانقلابات العسكرية السابقة.
كان الانقلاب يفتقد أولاً وأخيراً إلى دعم القيادة العسكرية العليا التي لم تكن على علم به. فمن قاموا به هم من القيادات الوسطى، وبالتالي فإن مثل هذا الانقلاب افتقد أحد عوامل نجاحه، وفتح الباب أمام انشقاق في الجيش بخلاف كل الانقلابات السابقة.
ولأن هذه القيادات المسؤولة عن الانقلاب لم تكن عالية المستوى، فإنها لم تكن تملك القدرة على تحريك قطاعات واسعة ومؤثرة وكبيرة، لا من الجنود ولا العتاد العسكري الكافي لإحكام السيطرة على المؤسسات الرسمية، والمفاصل الجغرافية الأساسية.
ثم إن حزب العدالة والتنمية كان أعد «جيشاً موازياً» تمثل في تقوية الشرطة وتجهيزها بالأعتدة الثقيلة، وكلها موالية لأردوغان. وهي التي أفشلت الانقلاب بمقاومتها له على الأرض.
أما وقد فشل الانقلاب فإن التساؤل الملح هو عن تداعياته، وما سيتركه من آثار سلبية في الداخل التركي، كما في سياسة تركيا الخارجية.
في الشق الداخلي كانت المحاولة الانقلابية وما تبعها من ردود وإجراءات في غاية الخطورة على الاستقرار في الداخل.
وأدت المحاولة الانقلابية إلى ردة فعل كبيرة من جانب السلطة السياسية على كل من تشتبه في أن له علاقة بالانقلاب، فقامت باعتقال عشرات آلاف الأشخاص، وطالت هذه الاعتقالات بشكل أساسي من تعتقد السلطة أنه موال للداعية فتح الله غولن، المتهم بأنه وراء الانقلاب.
وإذا أضفنا عمليات التطهير داخله، كذلك بعض ظواهر إذلال أفراد مدنيين لجنود لجهة الركل بالأرجل والجلد بالسوط وغيرها، فإن الجيش تلقى ضربة كبيرة في معنوياته ستخلف أحقاداً في داخله. وهو ما يجعله أيضاً مكسور الجانح في العلاقة مع المجتمع المدني، كما في معنوياته لمواصلة الحرب ضد حزب العمال الكردستاني.
ووجهت المحاولة الانقلابية ضربة كبيرة لمساعي أردوغان إعطاء صورة عن تركيا التي دفنت فيها فكرة الانقلابات. إذ تبين أن هذه النزعة لم تدفن، وبالتالي فإنها قابلة للتكرار مرة وأكثر، وهو ما يعمق الريبة في العلاقة بين السلطتين المدنية والعسكرية.
ولا شك في أن الآثار الاجتماعية لعمليات التطهير ستترك ندوباً كبيرة في المجتمع والعلاقة مع الدولة عموماً.
والانقلاب وردة الفعل عليه أعطيا انطباعاً بأن الحالة الأمنية مضطربة، وأن تركيا غير آمنة، وهو ما يؤثر بالتأكيد في الاستثمار الخارجي في تركيا، كما في القطاع السياحي الذي يعاني أصلاً بسبب التفجيرات والعقوبات الروسية، رغم الإعلان عن رفعها من قبل موسكو.
أما في المجال الخارجي، فإن أول التساؤلات عن العلاقات التركية- الأمريكية، لجهة اتهام أنقرة فتح الله غولن المقيم في أمريكا بالوقوف وراء الانقلاب، واتهامات تركية بدور أمريكي ما في الانقلاب، خصوصاً لجهة تأخر واشنطن في إدانة المحاولة الانقلابية. وتبقى مسألة تسليم غولن إلى تركيا بوصلة العلاقات بين الطرفين في الفترة المقبلة، حيث إن أمريكا ستقاوم تسليمه، فيما أنقرة تصر على ذلك.
وفيما ستواصل العلاقات التركية الأمريكية تذبذبها من دون المس بأسس العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، فإن إدانة روسيا للانقلاب منذ لحظاته الأولى ستعزز العلاقات مع موسكو التي كانت قد بدأت بالعودة إلى طبيعتها في الآونة الأخيرة. أما العلاقة مع الاتحاد الأوروبي فهي ستواصل حالة المد والجزر القائمة منذ سنوات، مع احتمال تدهورها أكثر في حال إلغاء تركيا عقوبة الإعدام.
أما بالنسبة إلى السياسات تجاه القضايا الإقليمية، ولا سيما في سوريا والعراق والمنطقة، فقد تشهد، نتيجة لانشغال أردوغان بالداخل، تراجعاً مؤقتاً في وتيرة الدعم للمعارضة في سوريا، أو الزخم في الحرب ضد الأكراد، من دون أن يعني ذلك تغييراً في المنطلقات الأساسية لهذه السياسات.
المصدر: الخليج