كاتب وأكاديمي عربي
«ما استل سيف في الإسلام مثل ما استل على الإمامة»، هكذا قال الشهرستاني، كما يقتبس وجيه كوثراني في كتابه «الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية». ويمكن ببساطة افتكاك مقولة الشهرستاني من سياقها الخاص بإعادة صوغها كالتالي: «ما استل سيف في تاريخ البشر مثل ما استل على الحكم». أُس مسألة السياسة واجتماع البشر، إذن، وجذرها المُتحفز للتفجر يكمن في السلطة والسلطان. ليس هذا حصراً في فضاءات العرب والمسلمين بل هو ديدن البشرية على اختلاف شعوبها وأديانها وثقافاتها. ظلت السلطة هي المغرية الدامية والمُدمية، من أجلها وفي سبيل السيطرة عليها قامت حروب وأبيدت جماعات وأُهلكت دول وأمصار. إذا تم الوصول إلى صيغة ما يمكن عبرها إدارة الصراع سلمياً على السلطة، عندها تنحسر الصراعات وينخفض منسوب الدم، وبدون ذلك فإن دورة العنف لن تهدأ.
بيد أن جوهر ذلك الصراع يدور حول خلاصة واحدة، ظل المهمومون بالسياسة من ثيوسيدس إلى الماوردي وصولا إلى ميكافيلي وهوبز يكررونها: كل الوسائل مشروعة في سبيل السلطة. وفي قلب تلك القصة يقع الفصل الأكثر إثارة وهو أن السلطان، وحتى يومنا هذا، لم يجد وسيلة أكثر نفاذاً وفعالية من الدين لتوظيفه في الاستحواذ على السلطة. في كل ديانات وسياسات العالم، انهمك السلطان في السيطرة على المعتقد ليقول لعامة الناس إنه حامي ذلك المُعتقد، وإنه الممثل الشرعي له، واشتغل على تحويل وتحوير وتأويل المقولات الدينية لتعزز من شرعيته.
جوهر المجادلة التي يقررها كوثراني في هذا الكتاب، هو إعادة الاعتبار لسياقات التطور التاريخي عند احتدام الجدل حول «السياسة والدين» في الإسلام (السني والشيعي)، بعيداً عن المناطحة النظرية التجريدية. في التجربة التاريخية وتنوعاتها نشهد صراعات «السلطان» و«الفقيه»، ويمكن أن نخلص إلى نتائج موضوعية. هذا طبعاً يناقض المنهج النصي الذي تحالف على ترويجه الاستشراق الكلاسيكي، والمنظور الحركي الإسلامي ومثقفيه الذين وقعوا في أسر النص وتمترسوا خلفه، وظنوه خارقاً للزمان والمكان.
المنهج التاريخي المتعمق، كما هو لدى كوثراني هنا، يقودنا لخلاصات هامة؛ يتقدمها تقويض الجوهرانية (السياسية الدينية) التي نصبها المستشرقون وحلفاؤهم من الإسلاميين حول الإسلام، بزعم أنه جوهر ثابت لا يتغير ولا يتفاعل مع السياقات حوله. وجانب من الجوهرانية تلك الإدعاء بأن المسجد والسياسة في الإسلام متحدان متداخلان، ليس ثمة فصل ممكن بينهما كما هو الحال في السياق الغربي بين الكنيسة والسياسة. يقول كوثراني إن المستشرقين روجوا هذه الفكرة طويلا، ثم سرعان ما التقطها إسلاميو القرن العشرين، ومعهم تحولت إلى ما يشبه القناعة العامة. وهكذا، وفي قلب التجربة الأوروبية، وبعد قرون من الحروب الدينية الدموية التي كان جذرها تداخل الدين والسياسة، فإن الحل الناجع الذي آلت إليه تلك التجربة، وهو الفصل بين السلطتين، يصبح حلا خاصاً بالتجربة الأوروبية فقط، أي لا يمكن تطبيقه على الحالة الإسلامية لأن السلطتين هناك متداخلتان ولا يمكن الفصل بينهما، وعليه فالعلمانية التي كانت هي الحل للمذابح الأوروبية لا تصلح للمسلمين ولا للإسلام! هذه هي النتيجة المُختلة معرفياً وتاريخياً والمدمرة سياسياً، والتي آل إليها التنظير الديني المتسيس في اللحظة العربية والإسلامية الراهنة.
يغوص كوثراني في تواريخ الدولتين العثمانية والصفوية. يتابع توترات وعلاقات وتنافسات التسيس والتدين في هذه السياقات الإسلامية ليستنتج انفصال السلطان عن الفقيه في الحالتين السنية والشيعية. ما بدا توحيداً للمجالين المذكورين لا يعكس في الواقع التاريخي سوى السيطرة الفعلية للسلطان على الفقيه، وتوظيف الأول للثاني. في الحقب الأعرض من تاريخ التسيس الإسلامي، ومباشرة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين، سقط الفقيه في براثن السلطان. ونعلم جميعاً أن مدارس الفقه وعلم الكلام، لم تكن إلا استجابات لمتطلبات المايسترو السياسي المُسيطر (السلطان).
يلاحق كوثراني تلك الاستجابات واستخدام السلطان لها، في الحقب التاريخية المتنوعة؛ من المرحلة البويهية والسلجوقية وصولا إلى نهوض الدولة التركية الحديثة وإيران الحديثة. من الماوردي ونظام الملك إلى محمد حسين النائيني والإمام الخميني.. والاستنتاج التاريخي لا يني يتثبت ويتحقق، وهو سيادة السلطان على الفقيه، وانفصالهما فعلياً. بيد أن التوظيف الإدماجي من قبل الأول للثاني أبقى ولا زال يبقي على الوعي الزائف المُشتهر بتوحد السياسة مع الدين في الإسلام.
المصدر: الاتحاد