محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
الكتابة حول الطائفية وارتداداتها السياسية في محيطنا العربي أمر تحوطه المخاطرة في هذا الزمن الصعب، ومن السهل إخراج الكلمات والعبارات عن مسارها، ومن المربح تحريف المقاصد من أجل استثمارها سياسيا، خاصة من أهل الجهل أو التوظيف السياسي، سيان، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
لم أكن أرغب شخصيا في تناول هذا الموضوع الشائك.. «الطائفية» التي تتعقد تشابكا بين المذهبي والسياسي والمصلحي. كان السكوت عن مناقشتها خطأ، وأصبح اليوم خطيئة، وقد كثر تناولها في الكتابات الغربية، ومرة أخرى جرت قراءتها عن جهل أو بأهواء.
تلك مقدمة مركزة تعفيني من التطويل.
أول ما يواجه المحلل هذا الخلط الذي نراه في الكثير من الكتابات الغربية، وأمامي دراسة مطولة لجون وارنر التي ترجمها البعض إلى العربية ووزعها على شبكة الإنترنت حول «العلاقات الشيعية – السنية في الخليج» التي يقول فيها متعجبا إن الشيعة لهم مساجد، والسُنة لهم مساجد مختلفة، كما يقطن الشيعة في مناطق خاصة بهم بعيدا عن مناطق السُنة، وإن المخرج من هذا الانقسام السماح لأحزاب من خارج التقوقع الطائفي! وقد تجاوز الكاتب حديقته الخلفية، بأن كنائس البروتستانت غير كنائس الكاثوليك وغيرها الأرثوذكس، وبين الطوائف الثلاث من الاختلاف الكثير لا حاجة لتكراره، وأن المسلمين (شيعة وسُنة) لهم كتاب واحد، ويحجون إلى بيت واحد في مواسم محددة، غير البروتستانت الذين لا يحجون إلى روما! كما أن السكن المتقارب ناتج عن أن الناس يألفون بعضهم بعضا، قبل أن تتسع المدن وتختلط، وتلك خاصية اجتماعية وإنسانية عامة، وأن بلدا مثل لبنان إمكانية إنشاء الأحزاب فيه على أسس غير طائفية ممكن نظريا، إلا أن الثقافة العامة والممارسة في الغالب تميل إلى التكتل الطائفي! وفي دراسة أخرى لمركز بروكنغز المعروف – صدرت الشهر الماضي – تحت عنوان «الطائفية الجديدة: الانتفاضة العربية وعودة ميلاد الانقسام الشيعي – السني»، تذهب الكاتبة جنيف عبده لتربط بين التأييد الإيراني للانتفاضات العربية الأولى السريع والمبتهج، وبين الانتكاسة بعدها لما بدأت الأحوال في سوريا تأخذ المسار نفسه، حيث تحول الأمر في سوريا إلى ساحة صراع طائفي.
الدراستان لجنيف ووارنر تنظران إلى الموضوع من زاوية لها علاقة بالمصالح أو السياسات الأميركية، وهو قصد لا يمكن منازعته من وجهة نظر مصلحية.
ما يمكن منازعته أن يسير بعضنا في ركاب التفسيرات الخطأ والمتسرعة من أجل بث معلومات في ظاهرها الرحمة وفي باطنها التشكيك والتأجيج. جزء من ذلك كله عدم التصدي للظاهرة محليا بشجاعة وعلمية، تشريحا وتوضيحا.
الواضح أن هناك في أذهان كثيرين خلطا أو تشوشا بين مفهومين «الشيعية» و«الإيرانية». معظم الإيرانيين شيعة، ولكن ليس كل الشيعة إيرانيين أو محازبين سياسيا لإيران. بعض العرب الشيعة محازبون لإيران، بل إن بعض السنة كذلك لأسباب سياسية، تلك حقيقة، أما الحقيقة الثانية فإن هناك شيعة عربا نافرين من نتيجة التجربة السياسية الإيرانية، بل فوق ذلك هناك شيعة إيرانيون مضادون للتوجه السياسي لطهران.
خلع الغطاء السياسي لتلبيس الموضوع غطاء طائفيا يسهل للعامة الانخراط فيه، وللسياسيين التغرير بسهولة بالعامة؛ من أجل حشدهم استفادة من عاطفتهم الدينية. ويتغاضى البعض عن البعد السياسي وصولا إلى البعد الطائفي؛ لأنه الأسهل في البيع في سوق تجاهل فيها الخاصة الحقائق، وزاد العامة تضليلا بالخرافة.
موقف إيران السياسي من ربيع العرب في البداية كان مرحبا، بل حسبه كثيرون من أهل السلطة في إيران امتدادا لثورتهم عام 1979، وما إن تفجر الصراع في سوريا – ولأسباب سياسية – حتى تحولت نصرة المضطهدين إلى نصر الظالمين، بل أظهرت السياسة الإيرانية فشلا في التعاطف الأخلاقي والإنساني مع الضحايا! فالموضوع هنا ليس مستضعفين ضد مستكبرين، بل مصالح تقع في الشق السياسي.
من جديد ربيع العرب كان اندلاعه لأسباب داخلية، ولم يرفع شعارات لها علاقة بـ«الشيطان الأكبر»! كما توقعت طهران.
أحد الطروحات التي تروج لها طهران ومناصروها، أن الغرب بمعناه الرمزي مضاد للشيعية الجهادية، وهو بالفعل مضاد لها من باب الحفاظ على مصالحه، ولكنه ليس مضادا للشيعية كمذهب، بدليل أنه سهّل، حتى لا أقول كلمة أخرى، للطائفة في العراق تسلم الحكم والتحكم فيه!
ما يزيد الاحتقان الطائفي في المنطقة هو تعظيم الكليات السهلة والممكن توظيفها، كالقول إن السنة «مضطهدون في العراق»، وحقيقة الأمر أن قطاعات واسعة من الشيعة كذلك، أو إن الشيعة مضطهدون في لبنان، والحقيقة أن قطاعات واسعة من السنة وغيرهم في المركب نفسه، وهذا ينطبق على الكتلتين أو غيرهما في مناطق أخرى من عالمنا، سواء بالتقسيم الشيعي – السني، أو بالتقسيم العلوي – السني، أو بالتقسيم المسيحي – المسلم، أو بالتقسيم العرقي! إلا أن التعميم يسهل اصطياد المريدين.
المعركة الفكرية منذ أن تفجرت الثورة الإيرانية تتلخص في التناقض بين ثنائية، إما إخضاع السلطة الزمنية إلى السلطة الدينية، أو إخضاع السلطة الدينية إلى السلطة الزمنية.
الفراغ الذي سببه فشل الفكر والممارسة القومية التي ظهرت منذ الحرب العالمية الأولى تباعا في المنطقة، سهل من بروز «العمامة»، وأعنيها هنا بالمعنى الرمزي، أي بروز رجال الدين في صدر الحراك السياسي، مما جعل من بيدق الطائفية واحدة من أدوات اللعب السياسي، تحرك إن استساغها البعض، في فضاء قابل للاشتعال المتحزب والسريع.
يقول لنا التاريخ إن التطرف، وله أشكال مختلفة: دينية وسياسية وعرقية، يقود إلى انحطاط عام في سلوك الجماعة، وهبوط في المستوى الأخلاقي، لذلك تعم المذابح في فضاء التعصب الطائفي.
أول من يساعد على ذلك الهبوط الأخلاقي هم الساسة، الذين يرون تحقيق مصالحهم المباشرة في جر العامة خلف مقولاتهم الجاهزة المرتكنة إلى التعصب.
نحن نسير باتجاه – إلا أن يرحمنا الرب – يكون فيه القول الحصري في السياسية لرجال الدين. حقيقة الأمر أن من يقرأ تاريخنا المعاصر يجدهم خلف الصورة في الظلال دائما، الآن أصبحوا في مقدمتها، فرغبوا في الاحتكار في المجالين السياسي والديني، يقود ذلك أولا إلى انسداد أفق، وإلى تأجيج توتر اجتماعي يعظم من الفوارق ويقلل من الجوامع.
التفاصيل كثيرة، إلا أن الممارسة تزيد من الاحتقان، كدخول حزب الله طرفا في الصراع الداخلي في سوريا، كونه حزبا عقائديا منظما قائما على هوية طائفية. ممارسته تلك لا تبعد كثيرين عن التشكك في مقولته حول المقاومة، التي بدأت تذبل، بل أيضا يسبب شرخا غائرا في علاقات الطائفتين على النطاق الإقليمي لسنوات مقبلة، فهو يقف أمام الشعب السوري ونيله لحريته. قد يسارع البعض للقول إن هناك متشددين في الطرف الآخر من السنة، قادمين من أماكن كثيرة يعتبرون المعركة في سوريا ليس أنها مطالب للتحرر وبناء وطن مدني بعيد عن سيطرة الأجهزة السرية لصالح فئة صغيرة من المتنفذين، بل أن الصراع طائفي.. لا يمكن إنكار تلك الحقيقة، إلا أن يقيني – حتى الآن – أن تلك المجاميع دافعها شخصي، ولا توجد هياكل مؤسسية خلف دفعها إلى أتون المعركة، بل إن دولا يقدم منها هؤلاء تحذر رعاياها من مغبة الانخراط في هذه التهلكة، حيث كان لها تجربة مرة في مكان آخر في عقود سابقة.
رسم خطوط التماس الطائفي القائم على التعصب المذهبي فتيله قصير، وقريب إلى الاشتعال، وقد يعود على منطقتنا بوابل من الخراب، يصبح بعده خراب العراق وسوريا الذي تم بالفعل يتعدى البعثرة السياسية إلى السودنة، عندما يحل المفتون بديلا عن السياسيين.
آخر الكلام:
عجيب أمر ما يحدث حولنا؛ إسرائيل تعتدي على سوريا، ثم تمرر اعتذارا للقيادة أنها ليست المقصودة، ثم يصدر إنذار خشن من دمشق وقد حددت مناطق للهجوم على إسرائيل – دون العودة للقيادة – إن هي كررت اعتداءاتها.. هل فهم أحد شيئا في هذه الأحجية التي تشبه مكعب روبيك؟!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط