كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
شعرت بسعادة لا توصف وأنا (أتقاطع) الأسبوع الماضي صدفة مع شابين من القعر المادي للتوزيع الاجتماعي، وعلى الرغم من ذلك ينجحان في وضع الخطوة الصحيحة الأولى في طريق طويل. الأول يتخرج طبيباً، وحين عاد لأهله في القرية المتعطشة للخدمات، احتفل أهله به وكما قال (على كبسة دجاج معتبرة). اشترى لأخيه الصغير أول لعبة بلاي ستيشن تدخل القرية، مثلما اشترى الجهاز الآخر (جماعياً) لبقية الأطفال يلعبون به أمام ساحة مسجد القرية. الثاني طبيب أسنان من عائلة أعرف أن الحاجة معها فيروس عالق بالعظام ووراثة من كابر عن كابر. وحين اتصلت به للتهنئة صيف العام الماضي كان حلمه الوحيد مثلما قال لي أن يرفع اسم أبيه الطاعن في السن عن سجلات الضمان الاجتماعي، لأنه أصبح (مسبَّة) منذ أربعين سنة، وأن يبني ثلاث غرف لعائلة أخرى، مبرة لأمه الراحلة، وأن يدفع لأخواته الكبار الخمس عيدية معتادة كان يحلم بها في أيديهن منذ عشرين سنة. مع مثل هذه النماذج التي تأتي من جوف الأرض إلى بوابة الحياة، نحن لا نصنع فرداً فحسب. نحن نضيء عتمة قرية كاملة، ونحن نغرس شجرة ظلال في قفر موحل مثلما نصنع من التراب شمعة تنير الطريق أمام العشرات من ذات الأقران والمجايلين الذين يشاهدون أملاً حياً في ذات بيئة الإحباط والحرمان والبؤس.
ويخطئ من يظن أنني أكتب مجرد قصة فردين. خذ في المقابل أن المصدر الواثق لدي، وبالبرهان، يثبت أن نسبة كبرى من الطلاب المقبولين في إحدى كليات الطب هم أبناء أعضاء هيئة التدريس، وبالعلن السافر المستفز. لك أن تعلم أن القبول في زمالة أحد المستشفيات المتخصصة محسوم رغم أوراق الامتحان الوهمي. وكل اسم من هذه الأسماء التي لا تحمل من المؤهل سوى حروف (العطف) إنما هو يعدم الضوء في قرية كاملة. يحجب الأمل عن أسرة تحلم أن تحتفي بابنها البار المتفوق بعد سنين ولو على كبسة دجاج. يقتل الأمل في نفوس العشرات الذين يشاهدون كراسي المستقبل محجوزة وكأن هذه المؤسسات أمامهم مثل مكوك فضائي. وبالنسبة لي فإن (الإنسان) كلفظ لا يستحق أن يكون إنساناً إلا إذا أسقطت الفوارق بين طبقات المجتمع. هذه بلادة لا تعترف بفرحة طفل يشتري له أخوه الطبيب لعبة ذكية ولا بفرحة أخت ظلت 27 سنة تحلم بعيدية من يد أخيها الصغير الأوحد. الذين يحجزون الكراسي وكأن مؤسسات الدولة حفلة عائلية، مثل من يضع عمود النور ملاصقاً لعمود النور بينما الشوارع الأخرى تغرق في بحر الظلام. هؤلاء لا يرون مؤسساتنا إلا مائدة يصل إليها من كانت له ذراع طويلة. هؤلاء هم أخطر خلايا الفساد النائمة وهم أخطر من كل سارقي الملايين. سرقة المال قابلة للتعويض ولكن سرقة الأمل والنماذج والقرى وأحلام الآباء المسحوقين والأطفال والأخوات الثكالى هي رأس الفساد وذروة سنامه.
المصدر: الوطن اون لاين