المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
«بايدن متجمد في عقلية الحرب الباردة»؛ هكذا ينتقده الجناح اليساري المتشدد في الحزب الديمقراطي منافس الرئيس ترمب. ولكن هذه إيجابية تُسجّل له، وليست ضده، وهي التي تجعله مختلفاً عن رئيسه السابق، باراك أوباما.
بايدن قضى 36 عاماً في الكونغرس، وتشكلت مبادئه في السياسة الخارجية خلال المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، وينتمي لنوعية الديمقراطيين الذين ما زالوا يؤمنون بالنظام الأميركي، وأهمية التعاون مع الحلفاء لترسيخه، وهذا ما يجعل نقّاده من اليسار يتوجسون منه. في خطاب له في دافوس، أكد بايدن النقطة المحورية في رؤيته، حيث قال إن النظام الليبرالي يتآكل، وعلينا حمايته.
ومن هنا هو يختلف بشكل أساسي عن الرئيس باراك أوباما، الذي يُعدّ ديمقراطياً حديثاً، ولم يقضِ وقتاً طويلاً في الكونغرس، حيث ساعدته بلاغته وشخصيته الكاريزمية وعِرقه المختلط بوصوله السريع للبيت الأبيض. لم يترعرع في أجواء الصراع مع السوفيات ولَم يكن متحمساً للدفاع عن النظام الأميركي العالمي، ولَم يتردد في التخلي عن الحلفاء، وسخر منهم، وسماهم الراكبين بالمجان، بل كان يحمل نظرة آيديولوجية مختلفة تماماً عن العالم.
بايدن يختلف، ومن هذا الاختلاف نرى موقفين مهمين اتخذهما في الأيام الأخيرة يؤكدان هذه النقطة؛ الأول موقفه من إردوغان وتصرفاته المتهورة وخرقه للقوانين الدولية وتحديه للقوى الأوروبية. ففي لقاء مع صحافيي «نيويورك تايمز»، هاجم المرشح الديمقراطي الرئيس التركي، ووصفه بالمستبد، وتعهّد بدعم خصومه، وطالب بإسقاطه بالانتخابات وليس بالانقلاب.
هل كان بايدن يسعى للظهور بمظهر القوي للرد على هجوم المعسكر الجمهوري الذي يصفه بالناعس والضعيف؟ على الأرجح لا، ولكن لاعتقاده أن الرئيس التركي يتصادم مع رؤيته السياسية. تخريب «حلف الناتو»، والصدام مع الحلفاء الأوروبيين، والخروج عن القانون الدولي، وفي نهاية المطاف زعزعة استقرار النظام الليبرالي من حليف لواشنطن وليس عدواً لها.
لقد أراد بايدن أن يرسل رسالة للأوروبيين للقول إنه سيقف معهم ويؤدب المتنمّرين. سيعيد أيام الصداقة القديمة والتحالفات الوثيقة قبل أن يأتي الرئيس ترمب ويهينهم على مرأى العالم، ويطالبهم بدفع الأقساط المتأخرة عليهم، وإلا فسينسحب ويتركهم بمواجهة روسيا. وبالطبع ترمب لن ينسحب، ولكنه يستخدم هذه الحيلة لترسيخ المبدأ الذي قطعه لناخبيه بأنهم لن يتعرضوا للاحتيال مرة أخرى من الأصدقاء قبل الأعداء.
عودة التحالفات القديمة الوثيقة مبدأ مهم وأساسي لاستمرار النظام الليبرالي الذي نعيش تحت ظلاله منذ 7 عقود، ولكنْ في هذا الموقف أيضاً جانب خطر، إذا اتفقت هذه القوى الكبيرة على منهج مثير للجدل، وهذا ما نراه في الموقف من إيران. موقف بايدن من إيران هو نفسه موقف الأوروبيين، كما ذكر أحد أبرز مساعديه. السلاح الذي يفضله هو الدبلوماسية والاسترضاء. ومن المرجّح أن يذهب خطوة في هذا الاتجاه أبعد حتى أكثر مما يريد، بسبب حاجته لكسب أصوات مناصري الرئيس أوباما لإعادة الانتخاب ولتمرير المشاريع في الكونغرس. وهو يتعرض لضغوط من الآن لإعادة الاتفاق النووي، ولضبط الساعة 4 ساعات للوراء، ومداهنة الإيرانيين إرضاء للأوروبيين وأنصار الإدارة السابقة الذين جلبوا حقائب محشوة بملايين الدولارات دفعت لاحقاً بتمويل الميليشيات الشيعية المتطرفة. وهذه النقطة الأساسية والمهمة التي تؤكدها إدارة ترمب التي لا تقدم دعاية جيدة لنفسها بترسيخ دعائم النظام الليبرالي، وذلك عبر سعيها للإطاحة بالنظام الإيراني، أحد أبرز اللاعبين المناهضين له. يقول أحد المقربين من بايدن إن كلمة واحدة تختصر استراتيجية بايدن المستقبلية، وهي «التحالفات» مع الأصدقاء، الأوروبيين خصوصاً، لأنها الطريقة المثلى لحل الأزمات بدل الجهود المنفردة. وهذا يشرح السبب لماذا يهاجم إردوغان، ويهادن خامنئي، مع أنهما يفعلان الشيء ذاته تقريباً. لأن حلفاءه الآن غاضبون من أنقرة، ومتساهلون مع طهران.
سجلّ بايدن التاريخي مختلط الحسنات والسيئات، فقد عارض حرب تحرير الكويت، وأيّد حرب العراق في 2003، وأيد الانسحاب الأميركي من العراق، ويقال إنه عارض اغتيال زعيم «القاعدة»، بن لادن، ما أثار انتقادات بأنه يفتقد الحس الغريزي السليم في تقييم الأشياء. أيّد تدخل بيل كلينتون بحماسة في كوسوفو.
وعلى المستوى الشخصي يبدو مفعماً بالعواطف الجياشة، وهو يتحدث عن رحيل زوجته وطفله بحادث سيارة، وابنه بعد ذلك بسنوات بمرض السرطان. ومن جهة أخرى، يكشف مبعوث أفغانستان، ريتشارد هولبروك، عن شخص وضيع بلا مبادئ يطالب بالرحيل الكامل والفوري من أفغانستان، وعندما اعترض عليه بحجة أنه سيعرّض حياة آلاف النساء الأفغانيات والأطفال للخطر، هبّ في وجهه قائلاً: سحقاً لذلك! المهم أن لا نخسر انتخابات 2012. الواقع أنه ليس انتهازياً، بل سياسي محترف ومدرّب، يوظف قصة مأساة عائلته لتحقيق أهدافه، ويُجهِز على أي مبادئ أو أخلاق فردية إذا تعارضت مع مصالح حزبه أو رؤية إدارته. ولقد بدا في وقت شجاعاً، يقول ما يُؤْمِن به بلا تردد، مثل حديثه الصحيح قبل عقود عن أن مشاكل المجتمع الأسود هي غياب الأب وليس العنصرية. ولكن هذا الخطاب استخدمه خصومه، وحتى نائبته الحالية، للانتقام منه، بعد تحويله لـ«تابو» محرّم الحديث عنه في الأعوام الأخيرة، ولا يقوله إلا العنصريون. ولهذا بدا منكسراً ذليلاً، رغم صواب حجته في كل مرة يُطرح هذا الموضوع. يعتذر عن الصائب أخلاقياً وعقلياً حتى يُغفَر له ليصبح رئيساً.
من جهة أخرى، ينتمي لعجينة الديمقراطيين القدماء الذين لا يختلفون كثيراً عن الجمهوريين في مبادئ السياسة الخارجية، قبل أن ينحرف الحزب وتختطفه شخصيات متطرفة، مثل إلهان عمر وألكساندريا كورتيز. موقف بايدن الأخير من الاتفاق التاريخي بين الإمارات وإسرائيل يعزز هذه الفكرة الواقعية، ولكن الموقف من طهران (بسبب، جزئياً، ضغوط ماكرون الخارجية وطائفة أوباما الداخلية) يجعلنا نرى الغيوم تتلبد بالأفق من الآن، إذا لم ينتصر ترمب ويبددها لأربع سنوات أخرى.
المصدر: الشرق الأوسط