كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
كان من أسوأ وأخطر إفرازات وتداعيات ما سُمي بثورات «الربيع العربي»، سقوط «هيبة الدولة» في كثير من البلاد العربية، وانهيار كافة مؤسساتها القانونية والقضائية والأمنية، وذلك وسط بحر من الفوضى والاضطرابات، الأمر الذي مهد وهيأ المناخ الملائم لانطلاق «قوى الدمار والشر» من عقالها، لتعيث على امتداد الأرض العربية فساداً وقتلاً وتدميراً وترويعاً للناس وتهجيراً للملايين من أوطانها. دماء عربية غزيرة تسفك وطوائف دينية وأقليات تاريخية يقتل رجالها وتسبى نساؤها ويخطف أطفالها وتُهجَّر من مدنها التي استوطنتها منذ فجر التاريخ.. وكل ذلك يتم تحت سمع وبصر العرب والمسلمين الذين يقفون عاجزين عن تقديم يد العون ووقف المجازر وحرب الإبادة الممارسة ضد هؤلاء البائسين الذين يستغيثون بالمجتمع الدولي لإنقاذهم ويطالبون بسرعة التحرك لنجدتهم مما هم فيه.
ما يعانيه العرب في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، من مآس وأوضاع مضطربة ومجازر إرهابية أودت بحياة الآلاف من البشر منذ انطلاقة الشرارة الأولى لما سمي بثورات «ربيع العرب»، في تونس قبل 4 سنوات، وما عانته تونس ومصر في سنوات الهدر والفوضى الأربع الماضية، ما هو إلا بعض الثمار المرة لثورات «ربيع العرب» التي استبشرنا بها وهللنا لها وتطلعنا إلى تحقيق أهدافها في الحرية والعدل والكرامة. لقد هلل الكثيرون – نخباً وكتاباً وإعلاميين -لسقوط «حاجز الخوف» من النظام، وعدوه أكبر إنجازات «الربيع العربي»، وفرحوا بحكم الشارع والميدان، لكنهم كانوا واهمين، فسقوط حاجز الخوف، كان إيذاناً بحلول حكم الفوضى والسلب والنهب والتعديات. أربع سنوات عجاف، عاشتها مجتمعات ما عرف باسم «ربيع العرب» تحت حكم الشارع الفوضوي؛ مسيرات مخربة، ومظاهرات تثير الشغب، وتقطع الطريق، وتعطل حركة السير والمرور، وتتعدى على الممتلكات العامة والخاصة، وتحطم المطاعم والمحال، وتعطل الإنتاج والعمل، وتزعزع الأمن، وتثير الفزع، وتعتدي على رجال الأمن الذين سقط منهم المئات وهم يقومون بواجبهم في حفظ الأمن وحماية الناس والممتلكات.
أربع سنوات من ربيع دام، ذهب آلاف البشر ضحايا له، وظن كثيرون أنه الربيع الموعود، وأنه سيزدهر ويثمر شجرة الديمقراطية (الحل السحري لمشكلات العرب)، وأن الجماهير بمجيئه أصبحت تمتلك أمرها وباتت هي مَن يصنع قرارها عبر المسيرات والتظاهرات التي تملأ الميادين والشوارع، تهتف وتحتج وترفع الشعارات بسقوط الحكومة.. لكن مَن قال إن العرب يعرفون المظاهرات والمسيرات السلمية؟! لم تخرج مسيرة عربية دون ضحايا أو تخريب أو ترويع أو تعطيل للمصالح. كل مظاهرات العرب تخريبية، تدميرية ولا علاقة لها بالديمقراطية والحرية، وكافة المظاهرات التي شهدتها العواصم والمدن الرئيسية في بلاد «الربيع العربي» على امتداد أربع سنوات، تخللتها وصاحبتها حوادث قتل وتخريب، أعادت المجتمعات العربية إلى الخلف قروناً، فضلا عن الهدر الاقتصادي المتمثل في خسائر تجاوزت الـ50 مليار يورو بحسب تقارير دولية، فضلا عن تراجع إنتاجية كافة القطاعات مع ارتفاع معدلات البطالة وهروب الاستثمارات والسياحة وتدمير البنية التحتية لهذه الدول.
مظاهرات «ربيع العرب» لم تكن سلمية، لأنها مظاهرات انتقامية، ناتجة عن مخزون هائل من التراكمات النفسية المقموعة والمختزنة في العمق البعيد في الوعي واللا وعي المجتمعي. جاءت ثورات «الربيع العربي» لتزيل الغطاء الخارجي (الخادع) عن هذا المخزون السلبي (العنيف)، لتنطلق الموروثات القمعية والتعصبية في الفضاء المجتمعي، وكان أسوأ وأخطر هذه الموروثات القمعية المنطلقة من جوف مجتمعاتنا المكبوتة «داعش»، هذا التنظيم الإرهابي الذي فاق كل التنظيمات الإرهابية المشابهة وحشية وضراوة. نعم «ربيع العرب» أنتج نوعية متطورة، أشد عنفاً وترويعاً، من تنظيمات الإرهاب المعروفة والمعهودة على امتداد العقدين الأخيرين. هذا التنظيم الذي يمارس اليوم حرب إبادة جماعية تجاه كافة المكونات التاريخية في بلاد الرافدين، يزداد قوة ويجذب أنصاراً وأعواناً وتتضاعف خطورته يوماً بعد آخر، وهو لن يكتفي ببلاد الرافدين، بل وكما يقول وزير خارجية فرنسا «نحن أمام مشروع تدمير، الخلافة تعني كل المنطقة وما بعد المنطقة». لذلك يجب أن يواجه باستراتيجية إقليمية فعّالة لمحاربة الإرهاب على مستويين: خارجي بتنسيق الجهود الدولية بما يكفل الدعم والتعاون لقطع رأس هذا التنظيم والقضاء على خطورته. أما على المستوى الداخلي، فبإصدار تشريعات حازمة لمكافحة الإرهاب. ومن هنا أحيي إصدار دولة الإمارات، القانون الاتحادي رقم (7) لسنة 2014 بشأن مكافحة الجرائم الإرهابية، وأرجو أن نرى ما يشبهه على المستوى الخليجي والعربي، حمايةً لمجتمعاتنا وشبابنا من هذه الآفة الخطيرة.
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=80916