رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط
خلال نحو 9 أشهر يطوف وزير الخارجية القطري العالم كل شهر تقريباً، لمهمة واحدة لا غير، البحث عن حلول لأزمة بلاده مع الدول الأربع المقاطعة، قبل أن يضطر للاستعانة بوزير آخر يعاونه، وهو وزير الدفاع خلال رحلته الأخيرة لواشنطن، الذي بدوره كرر دبلوماسية زميله باستجداء إنهاء الأزمة سريعاً، بل إنه يدعي أن الرئيس دونالد ترمب يستطيع فعلها بـ«مكالمة هاتفية»! في كل عاصمة غربية الدبلوماسية القطرية لا تتغير؛ توقيع صفقات أسلحة أكبر من طاقة الدولة، مقابل شراء ضغط على الدول المقاطعة، وكما يقول أينشتاين: الغباء هو تكرار فعل الشيء نفسه عدة مرات وتوقع نتائج مختلفة، فقد انتهت كل الزيارات النهاية الحزينة نفسها؛ الكثير من عبارات التعاطف وشيء من «القلق»، أما الأهم فهي الرسالة شبه الموحدة: عذراً لا نستطيع التدخل في «أزمتكم»، حلّوها بينكم. وفي أقصى درجات الدبلوماسية يتم التذكير بالوساطة الكويتية.
منذ الخامس من يونيو (حزيران) 2017، عندما أعلنت الدول المقاطعة إجراءاتها ضد الدوحة، لم تتمكن الدبلوماسية القطرية، المتفرغة تماماً لهذه الأزمة، على عكس الدول الأربع التي التفتت لقضاياها، من تحقيق أي اختراق سياسي لأزمتها، لم تتغير مواقف الدول الأربع قيد أنملة، لم تستجب العواصم الغربية في مساعي تدويل الأزمة، ولم تظهر بادرة أو إشارة بقرب انتهاء الأزمة، والدولتان الوحيدتان اللتان تقفان في صفها هما تركيا وإيران، وهما بالمناسبة تواجهان معاً نفوراً من بقية عواصم العالم، حتى مع استئجار قطر بعض صانعي الصفقات في واشنطن، ودفعها مبالغ طائلة لـ21 جماعة من جماعات الضغط في واشنطن، ومن بينهم نيكولاس موزين، وهو مساعد سابق للسيناتور تيد كروز، الجمهوري في ولاية تكساس، الذي وقع اتفاقا في أغسطس (آب) الماضي، مقابل 50 ألف دولار شهرياً، وفقاً لسجلات وزارة العدل الأميركية. ومن كان يراهن داخل أركان النظام القطري على أنها أزمة وقتية، بدأ يصحو على مفاجأة غير سارة، بأن الأزمة فعلاً أزمة سنوات لا شهور، وكما مرت تسعة أشهر فإن السنة الأولى قادمة، وربما سنتان أو ثلاث أو خمس، المشكلة أنه لم تلُح أي بادرة في الأفق لتجاوب غربي مع قطر، ومع ذلك تواصل الدوحة إبرام صفقات الأسلحة ودفع المليارات للغرب طمعاً في تغير مواقفهم، ولا أحد يدري متى ستتوقف عن شراء الأسلحة، المهم أنها تكدسها بينما هي عملياً لن تستطيع استخدامها.
في تقديري أزمة قطر الحقيقية تكمن في عدم قدرتها على تنفيذ الشروط المطلوبة لسببين رئيسيين؛ الأول هو علاقاتها المشبوهة مع الجماعات المتطرفة، وعدم سهولة إنهاء تلك العلاقة، وربما انكشاف أسرار فظيعة تورط النظام أكثر، والثاني أنها بمجرد استسلامها ستعود كما أصغر إمارة في الخليج العربي، وتنتهي كذبة الدولة الكرتونية العظمى التي أوهمت نفسها بها. ستعود إلى وضعها الطبيعي بما يناسب إمكانياتها الجغرافية والسياسية، فالمال وحده لا يجعل الدول كبرى، وهذا آخر ما يمكن أن يقبل به النظام القطري، الذي جرب كل الأساليب غير الشرعية من أجل التآمر على الدول الكبرى في المنطقة، وبالتالي يستحيل عليه قبول الواقع والعودة عن مشروعه التدميري.
بعد الفشل في دبلوماسية التدويل والمظلومية وتسويق سيناريو التدخل العسكري المزعوم، وبعد الفشل أيضاً فشلاً ذريعاً في دبلوماسية تسييس الحرمين الشريفين، ها هو النظام القطري يستحدث دبلوماسية جديدة، وهي دبلوماسية الاستجداء لعل وعسى، بينما هو في حقيقة الأمر يعمق أزمته ويرفع من تكاليف عودته، كحال الأنظمة المتهورة التي تظن أن استراتيجية الخداع والمراوغة قد تكون السبيل الوحيد للخروج من أزماتها.
المصدر: الشرق الأوسط