كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
من السهل لوم ضيفنا القادم باراك أوباما على عجزه وقلة حيلته في الشرق الأوسط، وهو يرى العالم المحيط بحلفائه ومخزن العالم النفطي يتداعى، ولكن ماذا عن عجز أهل الدار؟ عجز السعودية وتركيا والأردن وهي ترى حالاً هائلة من اللاإستقرار تحيط بها في العراق وسورية واليمن، والله أعلم ما تحمل الأيام لمصر، السند والثقل العربي… سابقاً.
لم تعد القضية انتصار بشار الأسد ونظامه، فبقاؤه حتى الآن وبعد ثلاثة أعوام من الثورة والرفض الشعبي له انتصار، وليست القضية في تغوّل إيران في عالمنا، وهو أمر حاصل وجلي وأصبح مع مرور الوقت مقبولاً أميركياً وعالمياً، وفق نظرية «حكم القوي» و«إنما العاجز من لا يستبد»، والتي تعود إلى السياسة العالمية بانتصار القيصر الروسي الجديد بوتين واحتلاله جزيرة القرم الأوكرانية، وضمها إلى روسيا في أكبر عملية تغيير قسري للحدود الدولية منذ الحرب الثانية.
كتبت مقالة قبل عام ونصف العام، دعوت فيها إلى تحرك عسكري سعودي – تركي – أردني في سورية، يفرض الأمر الواقع لمصلحة دول المنطقة الحرة التي تريد الاستقرار. قلت في نهايتها: «إن كلفة حرب أهلية في سورية تستمر بضعة أعوام، أكبر من كلفة تدخل سريع ينهي الأزمة خلال أيام على رغم خطورته»، وها هي الثورة السورية تتحول إلى حرب أهلية، وبدأنا ندفع كلفتها الباهظة، وها هي تدخل عامها الرابع من دون أي ضوء في الأفق لتدخل جاد ضد بشار ونظامه.
وعلى رغم تعاطفنا الظاهر مع القضية السورية، قوبلت دعوة كهذه بانتقاد عبّر عنه الكاتب السعودي المعروف عبدالعزيز السويد في عموده اليومي في الطبعة السعودية من هذه الصحيفة قائلاً: «إن دعوتي للتدخل إنما هي موقف عاطفي متوافق مع دعوات بعض التيارات الإسلاموية» بحسب تعبيره، ثم اختتم بسخرية: «وليس بمستغرب أن تمتد هذه العاطفة لتطالب الجيوش عند عودتها المظفرة بالمرور على فلسطين المحتلة وتحريرها».
أتفهم موقف الزميل، وأحسبه موقف أكثر من مسؤول سعودي أيضاً، فلا أحد يريد الحروب والزج بأبناء الوطن في أتونها. أميركا نفسها تأخرت في دخول الحرب العظمى عاماً ونيفاً، وهي ترى ألمانيا النازية تلتهم حلفاءها الأوروبيين واحداً بعد الآخر. كان رئيسها مشلولاً مقعداً على كرسي، ولكن عجزه هذا لم يمنعه أن يرى الحقيقة الواضحة. لو انتصر هتلر ونازيته، وأحكم سيطرته على أوروبا، واستبدل أنظمتها الديموقراطية بحكومات فاشية محلية، فإن أميركا نفسها البعيدة لن تكون بعيدة حينها عن طائلة يده ونفوذه. لو كانت ثمة مساحة للصور مع مقالتي هذه لأرفقت صوراً لاستعراضات النازيين الأميركيين وهم يحتفلون بانتصار ملهمهم. نعم كان هناك حزب نازي في الولايات المتحدة وقتها.
هذا الذي ينتظرنا لو لم نتدخل في سورية، مزيد من حكومات مثل حكومة المالكي في العراق، وبشار الأسد في سورية، طائفيون فاشيستيون، يتسترون خلف ديموقراطية وانتخابات زائفة. ها هو بشار من الآن يبدأ حملته الانتخابية بينما تقصف طائراته ناخبيه المفترضين في حلب وريف دمشق وحمص وحماة.
قبل عام ونصف العام لم تكن في سورية «داعش» ولا «جبهة نصرة»، اللتان أُعلنتا أنهما تنظيمان إرهابيان يُجرَّم من يلتحق بهما. عجزنا والمجتمع الدولي هو الذي أعطى الفرصة لظهور النصرة أولاً، كانت «القاعدة على خفيف» ترفض الديموقراطية، ولكنها قبلت بالآخرين وتعاملت معهم كفصيل مجاهد بين فصائل أخرى. استمر العجز، فجاءت «داعش» «القاعدة هارد كور» غاية في التطرف وتكفّر العموم، وأعلنت نفسها أنها «الدولة والدولة أنا»، وجعلت زعيمها أميراً للمؤمنين، من سمع به وبلغه خبر ظهوره ولم يبادر ويبايع أحد مندوبيه، فهو كافر حلال الدم والمال والعرض.
كيف ستكون المنطقة من حولنا لو استمرت حال العجز؟ من الباكر الحديث عن انتصار بشار وتحول سورية العرب إلى قاعدة إيرانية متقدمة في قلب مشرقنا العربي. لم يحن الوقت بعد ليصل مرشد الثورة خامنئي إلى دمشق، ويصعد درجات منبر الجامع الأموي، بينما نتابع بألم نقلاً حياً لهذا الحدث التاريخي من على شاشات قنواتنا الإخبارية، ليدشن من هناك «الحقبة الإيرانية». قد يحصل ذلك، ولكن ليس الآن. التوقع المنطقي هو استمرار حال الفوضى وتمددها، وتعوّد الاقتصاد والسياسية وكذلك السياسة العالمية عليها. تحسن سعر الليرة السورية ووصولها إلى 132 ليرة للدولار بعدما انهارت قبل عام ونصف العام حتى وصلت إلى 300 ليرة للدولار، نموذج لهذا التعود، السبب لم يكن انتصارات الجيش السوري كما زعم وزير إعلام نظام بشار، السبب الحقيقي هو الأموال السعودية والقطرية والخليجية التي تضخ لدعم الثوار وتجد طريقها للاقتصاد السوري الكلي، إنها نتيجة طبيعية لاستقرار حال الثورة. بدأت تظهر حدود شبه ثابتة بين الثوار والنظام، بل بات من الممكن عقد صفقات واتفاقات لوقف إطلاق النار في حال توازن القوى، مثلما حصل في «برزة» الضاحية الدمشقية التي يسيطر عليها الثوار ويحاصرون منها حي «عش الورور» الموالي للنظام، فكان الاتفاق على وقف إطلاق النار وقصف برزة وفك الحصار عنها، والسماح بدخول المؤن لها في مقابل السماح لسكان «عش الورور» بحرية التنقل إلى العاصمة. اتفاق مثل هذا لا يمكن تطبيقه في حلب، حيث لا يملك الثوار ورقة ضغط. إنها مجرد منطقة حرة، والحرية تعني لبشار قصف سكانها الأحرار من مدنيين وثوار بالبراميل المتفجرة، حتى يخضعوا ويعودوا إلى بيت طاعته.
بقاء النظام السوري لا يعني فقط استمرار معاناة الشعب السوري، إنه يعني استمرار الحرب الباردة بين السعودية وإيران، ما يعني استمرار رفض المعارضة في البحرين لكل مبادرات الحكومة الإصلاحية، ما أوجد أزمة في هذه الجزيرة السعيدة، تنعكس عليها تهديداً في الأمن وخسارة في الاقتصاد، ويعني استمرار حال اللااستقرار والتوجس في لبنان، واحتمالات انهيار الوضع القائم على جرف هار مع كل مرة تنفجر فيها سيارة مفخخة أو يُغتال زعيم سياسي، ويعني استمرار الانهيار والنهب العام والتشرذم الطائفي في العراق ما أدى إلى حال قلقة تنتظر شرارة لينهار المجتمع تماماً ويطفح بأزماته الحادة على كل جيرانه، ويعني استمرار التقدم الحثيث والهادئ للحوثيين في اليمن، لنستيقظ يوماً على واقع جديد تماماً في صنعاء. يجب أن ننظر إلى سورية كبؤرة لحال تفكك أكبر تحيط بالمملكة والخليج من كل جانب.
هل يمكن أن نقبل باستمرار هذه الحال لأعوام مقبلة عدة طالما أن الأميركي لا يرغب في التدخل؟ الحكمة تقول: لا، ولكن الواقع يقول إن العجز الذي كان سيد الموقف خلال الأعوام الثلاثة الماضية سيستمر في مقبل الأيام والأعوام، وبالتالي فمن الأفضل وضع سيناريو لما ستكون عليه حال سورية والمنطقة إن تركنا الأيام تفعل فيها ما تشاء، ونرتب أمورنا وحساباتنا على الواقع كما هو، لا كما نتمنى.
المصدر: الحياة