باحث سعودي
أظن أن أبرز عيوب المنهج الفقهي الموروث هو خلطه بين دورين مختلفين تماما: تشخيص الموضوع، واستنباط الحكم الشرعي المناسب له. الفقيه يفتي بجواز الإفطار في رمضان للمريض، مثلا. لكنه لا يأمر شخصا معينا بالإفطار. لأنه حكم في خارج اختصاصه. نحن نتبع فتوى الفقيه بوجوب الصوم أو عدمه، لأنه مختص باستنباط الأحكام. أما تشخيص من يلتزم ومن يمتنع عن الصوم، فهو مهمة الطبيب.
لا خلاف إذن حول التمييز بين الحكم وموضوعه. محل الخلاف هو تدخل الفقيه في تشخيص موضوعات الأحكام. وقد جرى العرف بأن يفتي الفقهاء في كل مسألة، من أحكام الطهارة والصلاة إلى السياسة مرورا بالأموال والتجارات، فضلا عن التعليم وتحديد المواقع الجغرافية والآثار… إلخ.
هذا العرف القديم لم يعد مفيدا. في ماضي الزمان كان الفقهاء علماء في كل فن، وكانت المدارس الدينية واسعة الأفق. وعرفنا بين قدامى الفقهاء أطباء وفلاسفة ومؤرخين، وكان حجم العلوم ضئيلا، وفروعه متداخلة، ربما بسبب بساطة الحياة ومحدودية أسباب المعيشة والتعاملات.
اختلف الحال اليوم فتشعبت الحياة وتعقدت. واتسعت لهذا السبب العلوم والتخصصات، فأصبح مستحيلا على أي شخص الإحاطة بكل العلوم. حتى علم الفقه نفسه اتسع وأمسى عصيا على شخص واحد أن يتعمق في كل فروعه، فضلا عن أن يحيط بغيرها. استقلال العلوم عن بعضها، وتنوع المدارس والمناهج، والتفريع المستمر الذي يؤدي بالضرورة إلى ظهور تخصصات جديدة، جعل الدقة والتبحر رهنا بالتخصص الدقيق في فرع من فروع علم واحد. ولهذا قيل إن “تقسيم العمل” هو أعظم اكتشافات البشر، وإنه مفتاح التقدم العلمي والحياتي. ولولا تقسيم العمل، لربما كنا لا نزال نركب البغال ونستضيء بالشموع ونعالج مرضانا بالحديد المحمى أو روث الإبل.
من المفهوم أن تشخيص الموضوع سابق للحكم عليه. ولهذا قيل إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. لكن أنى للفقيه أن يتصور موضوعا في السياسة مع تعقيداتها وتداخلها مع الاقتصادي والقانوني والأمني. وكيف يستطيع تصور المعاملة البنكية مع شدة تعقيد قضايا المالية وتداخلها مع الاقتصاد الجزئي والكلي وارتباطها بحركة السلع والخدمات ومعدلات البطالة ومستوى المعيشة واتجاهات السوق داخل البلد وخارجها. هذه أمثلة بسيطة عن التعقيد الشديد في الموضوعات التي يسأل الفقيه عن أحكامها.
يستحيل على أي فقيه أن يتبحر في هذه الموضوعات. فإذا حكم فيها دون علم عميق، فسيأتي حكمه ــــ على الأرجح ــــ سطحيا لا يلامس جوهر القضية محل السؤال. الحل الوحيد، كي يأتي الحكم الشرعي متناسبا مع موضوعه، هو إحالة الموضوع إلى أهل الاختصاص فيه، وتخصص الفقيه في استنباط الحكم، وهو دور لاحق لبيان رأي صاحب الاختصاص العلمي وتشخيصه لطبيعة الموضوع وموضع الإشكال فيه.
المصدر: الاقتصادية