خاص لـ هات بوست:
لا شك أن إشاعة التسامح الديني، على نحو جماهيري، عمل شاق يستدعي جهودا يتضافر فيها الخطاب الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي. ويتطلب تعاون الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور. إنه عمل جذري يستهدف البنى الفكرية والعقدية للمجتمع، وإعادة صيغ العقل والأولويات والوعي، وتقديم فهم عصري للدين والرسالة والهدف، ونقد للمفاهيم والقيم والسلوك، ورسم مستقبل جديد للفرد والشعب والوطن، وقراءة متفهمة للتراث والتاريخ، وعودة إلى القرآن والعقل، والتخلي عن العنف والتنابذ، والتمسك بالاحترام والتسامح، وفهم آخر للحياة والعمل الصالح.
يتأسس التسامح الديني على ذلك كله، إلى حد يتعذر معه بلوغ هذا المرمى العزيز في غياب أي من الشروط المذكورة. لكن تركيب القول يقتضي أن نقول إن كثيرا من هذه الشروط متعالقة يتأسس بعضها على بعض، أو يؤدي بعضها إلى بعض، على نحو يتحول فيه ما كان سببا إلى نتيجة، وما كان نتيجة يصبح سببا داعيا لنشوء شرط آخر. لكن، وبصرف النظر عما يجري هنا من استبدال المواقع بموجب قانون العلة، فإن بلوغ التسامح الديني، في سياقات متحققة لا في خطابات فقط، يقتضي دينامية مؤسسية تشتغل على مستوى القواعد والبنيات العميقة المتحكمة في تجليات القيم المختلفة، ويشترط دينامية استباقية يكون لها فضل إجراء انعطافات في وعي الجماعات، وذلك لا يتأتى إلا في إطار تصور مجتمعي ترسمه مؤسسات قيادية يحركها وعي استشرافي وحكمة بالغة وإبداعية متفردة.
لا خلاف في القول إن دولة الإمارات العربية المتحدة نموذج استثنائي للقيادة الموصوفة، فقد استطاعت أن تعطي الدليل، عبر مؤشرات ملموسة، وليس خطابات فقط، على عنايتها الشديدة بقيمة التسامح الديني، من خلال رعاية المنابع البعيدة لصناعة القيم، وتوفيرها الشروط الموضوعية اللازمة لتطبيقات التسامح بين معتنقي الأديان والمذاهب؛ كل ذلك في قلب نهضة تقع في خضم مشروع حضاري يسعى إلى إعطاء النموذج في جودة الحياة، مع ما يعنيه ذلك من حرص على بناء القيم التي يتطلبها ذلك، من قبيل الحرية، والكرامة، والحوار، وحب الوطن، وقبول الاختلاف، والإبداع، والمساهمة في تدبير الشأن العام، وغيرها من القيم التي استطاعت القيادة الرشيدة للبلد إشاعتها وتحصيلها، بغاية الرفع من منسوب مشاركة المواطن الإماراتي في بناء الحضارة العربية والإسلامية والعالمية.
واضح، أيضا، أن انبثاق هذه القيمة بأرض الإمارات امتداد لروح المشروع الوحدوي المتميز الذي بصمت عليه هذه الدولة، وسيرٌ على أثر قيم الإسلام السمح المعتدل، الذي يدعو إلى قبول الاختلاف، والتعايش مع غير المسلمين في إطار مواثيق إنسانية تحدد واجبات الأطراف المختلفة تجاه بعضها بعضا، ونبتغي من قولنا، هنا، مستويين من مستويات النظر؛ أولهما المرجع النصي الإسلامي المؤسس للأفهام والأفعال، والذي يحفل بالأوامر الداعية إلى إشاعة القيمة إظهارا لجوهر هذا الدين ومقاصده العالمية، وثانيهما التجربة التاريخية الإسلامية، والتي تسجل في كثير من لحظاتها المشرقة غلبة صوت التسامح الديني بإيعاز وحماية من حكام مسلمين عاش في كنفهم يهود ونصارى وأهل ملل ونحل مختلفة. ويشكل دير صير بني ياس ( أول موقع مسيحي يتم اكتشافه في الإمارات، بعد انتهاء عمليات الحفاظ على الموقع وتجهيزه من قبل دائرة الثقافة والسياحة – أبو ظبي لاستقبال الوفود السياحية والزوار). في دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يرجع تاريخه إلى القرن السابع للميلاد، مثالًا ناصعًا عن احتضان البيئة العربية لقيم التسامح والانفتاح وقبول الآخر على اختلاف دينه وثقافته ومعتقده.
لقد راهنت الإمـــــــارات العربية المتحدة على اقتفاء المسالك العميقة لبناء القيم واستشراف السلوك، فجعلت مؤسسات الإنتاج الثقافي آليات فعالة لصناعة المواطن الصــــالح المتسامح، مزودة إياها بحاجتها من الموارد البشرية والمادية وغيرها، موفرة لها مناخا تنافســــيا يقوم على المبادرة الفكرية، والاجتهاد في صوغ المشاريع التثقيفية التي تروم مأسسة أخلاقيات التعايش مع الآخر المختلف.
