عرفته منذ أيام الجامعة، ذكياً حيوياً لا يهدأ عن التفكير والعمل. سافرت معه في رحلات عمل وكان خير رفيق في السفر، شديد الحساسية تجاه من حوله. فرَّقت بيننا الأيام لكن «الصدف» تجمعنا من حين لآخر. فلسطيني الجنسية، ولد وكبر ودرس وعمل في الرياض. انتقل قبل سنة للعمل في دولة خليجية بعد أن جاءه عرض وظيفي مغر من مؤسسة حكومية هي من بحثت عنه وأغرته بالانتقال.
اتصل بي قبل أيام مرتبكاً وشديد القلق: «كم حذرتني من التدخين وها أنذا أعيش مأساتي». زميل الدراسة يعاني من مرض خبيث في الحنجرة بسبب التدخين. لكن معاناته الأكبر، وهو القلق على مستقبل أطفاله، جاءت ممن ظن أنهم سيكونون سنده في أزمته: زملاء العمل! قال لي إن زملاء الوظيفة، بعد أن عرفوا بمرضه، بدأوا في اختلاق الأعذار والمضايقات لعله يستقيل. وعلى الرغم من أنه قد أبرز تقارير طبية تثبت تعافيه من مرضه وأنه قد تجاوز حدود الخطر إلا أن مضايقات مديره وزملائه قد زادت عن حدها. اتصل بي، وقد تمكَّن الإحباط منه، ليقسم لي بأغلظ الأيمان أن صدمته في مديره وزملاء العمل أشد وطأة من آلام المرض وأيام العلاج. وها هو، في منتصف العمر، يحزم حقائب الرحيل من جديد في رحلة بحثه الطويل عن «وطن». وقصة صديقي العزيز هي وجه واحد من وجوه رأسماليتنا القاسية.
قلتها كثيراً: إن أقبح وجوه «الرأسمالية» يعيش بيننا ونحن «الأمة» التي تسرف في الكلام عن الرحمة والصدقة والفزعة وحب الخير. عشت في قلب «الرأسمالية»، في واشنطن ونيويورك وبوسطن، لكنني أكاد أجزم أن ألعن أمراض «الرأسمالية» مقره عندنا. فالجشع والفساد والاستغلال وشهوة المال، مهما يكن الثمن، عناوين رئيسية في مشهدنا اليومي، من المحيط إلى الخليج! وما قصتك، يا صديقي العزيز، إلا صورة واحدة لرأسماليتنا القاتلة!
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١٨١) صفحة (٣٦) بتاريخ (٠٢-٠٦-٢٠١٢)